تقرير
27/05/2009
بمجرد تقلده منصب رئاسة الجمهورية الفرنسية قام السيد نيكولا ساركوزي بتكليف الاقتصادي و المفكر الكبير جاك أتالي مع مجموعة من الخبراء بتهييء تقرير مدقق حول الكيفية التي ستعطي بها الجمهورية الفرنسية انطلاقة جديدة لاقتصادها الوطني. بعد تجميع المعطيات و تصنيفها قام جاك أتالي نفسه بصياغة هذا التقرير و عنونه بـ "تحرير التنمية الاقتصادية". قدم إلى رئيس الجمهورية الفرنسية شهر يناير 2008. يتضمن هذا التقرير حوالي 300 مقترحا تعديليا لإعطاء انطلاقة قوية للاقتصاد الفرنسي.
بمجرد إنهاء هذا التقرير و تقديمه لرئيس الجمهورية الفرنسية قام جاك أتالي ببث مقالة صغيرة على موقع مدونته الشخصية ليوم 25 يناير 2008 تحت عنوان "عصفور فوق غصن الشجرة" أفصح في هذه المقالة عن بعض الحقائق التي تخص المجتمع الفرنسي و التي لم يقم بتضمينها في تقرير "تحرير التنمية الاقتصادية". يقول جاك أتالي في هذه المقالة المبثوثة على موقع مدونته الشخصية:"لقد خرجت من هذا التقرير بثلاث خلاصات مهمة. الأولى تخص اليأس المتنامي الذي تمكن من الفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة من شباب، نساء و أقليات ثقافية. الخلاصة الثانية هي ارتكان النخب القديمة إلى الجمود بداخل قاعة حفظ الموتى. هذه النخب التي استحوذت على عائدات الريع لمدة طويلة و نمت ثروة هائلة تدافع عنها بشراسة ولا تريد القيام بأي جهد يذكر من اجل تحديث و عصرنة ثروتها. الخلاصة الثالثة هي الحركية المدهشة للنخب الجديدة من منتجين، أصحاب مقاولات، باحثين و منشطين تربويين واجتماعيين؛ لكن المثير للانتباه أن هؤلاء ليسوا إلا مستهلكين لأفكار وسلوكات مستوردة و يفتقدون كليا إلى الروح التضامنية مع قضايا الوطن. لا تهمهم إلا منافعهم الشخصية و مستعدين للرحيل عن البلد أمام أي خسارة تعترض مسارهم. إنهم مثلهم مثل أي عصفور فوق غصن الشجرة.
أمام هذه العينات الاجتماعية و الاقتصادية الثلاثة يقول جاك أتالي ترتكن النخب السياسية والإدارية إلى الاستكانة لأنهم تنقصهم الشجاعة و النزاهة. في كل مكان سواء في البرلمان آو في منتديات رجال الأعمال، سواء في الحكومة أو في المعارضة كل هؤلاء يعرفون جيدا حجم التبذير و الوظائف المزدوجة. يعرفون كل هذا و يعترفون به في ما بينهم بداخل دوائرهم الضيقة و لكن ولا واحد منهم يتجرا على التصريح بهذا بشكل عمومي. خلال الاستجوابات التي قمت بها معهم كل واحد منهم كان يطلب مني أن أقوم أنا بتضمين هذه الملاحظات و هذه الانتقادات، كانوا يصرحون لي بهذه الأشياء و لكن كانوا يقولون لي قم بتضمين هذا في تقريرك و لكن حتى حينما يخرج هذا التقرير إلى العلن سوف نقوم بتكذيب محتوياته"
إلى هذا الحد وصلت فرنسا يقول جاك أتالي:"لقد أصبحت فرحة، غنية، قوية وواعدة إلى ذلك اليوم الذي ستطير فيه كل العصافير من أغصانها لتعلن عن وفاة فرنسا"
تقرير "تحرير التنمية الاقتصادية" الذي قدمه جاك أتالي لرئيس الجمهورية الفرنسية استهله على الشكل التالي:
"لقد جاء وقت الحقيقة هذا الكتاب ليس تقريرا أو دراسة و لكنه برنامج عمل من اجل القيام بإصلاحات أساسية و مستعجلة. هذا الكتاب لا يعبر عن رأي رجل متحزب أو رجل متعدد الأحزاب هذا الكتاب لا يعبر حتى عن ما هو حزبي. هذا الكتاب ليس كذلك جردا من الأفكار التي تسمح لحكومة من الحكومات بالاقتباس منها. العالم يتغير بسرعة هائلة و العالم تقوده حاليا اكبر موجة للنمو الاقتصادي عرفها التاريخ. أكثر من مئة بلد في العالم حاليا يعرف نمو منتوجه الوطني الخام أكثر من 5 % سنويا. إفريقيا و أمريكا اللاتينية هي الأخرى تنمو بأكثر من 5 % . الصين الشعبية تعرف معدلات تتجاوز 10 % منذ عدة سنوات. الهند 9 % من النمو. روسيا 7 % أما تركيا فاستقر نموها الداخلي في 11 % ثلثي مواطني هذا البلد لا يتجاوز عمرهم 25 سنة. إن المستقبل يدخر للعالم احتياطا هائلا من النمو حيث ستزداد البشرية بثلاث مليارات من البشر في ظرف أربعين سنة القادمة. لهذا السبب إذا ما تحسنت الإدارة السياسية، الاقتصادية، التجارية، البيئية، المالية و الاجتماعية للكرة الأرضية فان نسبة النمو ستستقر على ما فوق 5 % سنويا.
رغم أن أوروبا تنمو حاليا بنسبة أقل مما كانت عليه في الماضي فبعض الدول الأوروبية تستفيد من هذه الموجة التنموية في حين البعض الأخر يتهيأ للتلاؤم مع هذه الموجة الجديدة. ألمانيا قامت بعصرنة منطقتها الشرقية و قامت بتحفيز سوقها الداخلي كما قامت كذلك بتطوير صناعتها المتجددة. أما بريطانيا فقد التزمت بإصلاح نظامها المدرسي و نظامها الصحي. دول أخرى مثل ايطاليا، البرتغال، اليونان قامت بمجهودات جبارة من أجل مراقبة مصاريفها العمومية الداخلية كما قامت بعصرنة إدارتها و تحسين طرق اختيار موظفيها العموميين. أما اسبانيا فقد عملت جاهدة من أجل حصول كل سكانها على ملكية للسكنى. السويد قامت هي الأخرى بتنظيم إداراتها على شكل وكالات كما قامت بتطوير نظام التنافسية في القطاع العمومي. مملكة الدانمارك حققت نموذجا لمجتمع فعال تنافسي متضامن ومرن يعطي الأهمية الكبرى لمجال التربية و التكوين و لمجال الحوار الاجتماعي و الشغل. أما فنلاندا فقد أصبحت دولة رائدة في مجال التنافسية بفضل سياسة فعالة في مجال البحث و الاختراع"
هذه التقديرات التنموية الكونية الموغلة في التفاؤل التي أفصح عنها جاك أتالي في تقريره حول "تحرير التنمية الاقتصادية" تبدو ظاهريا أنها تتناقض مع ما يحدث حاليا في العالم الرأسمالي الحر من أزمات اقتصادية و إفلاسات لمؤسسات مالية، انتاجبة وغيرها ولكن قد تكون هذه التقديرات المتفائلة هي القريبة إلى الصواب لان العالم الرأسمالي الحر هو فقط بصدد تصحيح اختلالا ته الداخلية لكي يستطيع مواكبة هذا المد التنموي الكوني الجد مغري. لهذا اعتقد انه لا خوف على العصافير التي تعيش فوق غصن الشجرة.