| السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها | |
|
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:35 | |
| عمرة القضاء
وفي نهاية هذا العام السابع من الهجرة أعلن الرسول r في المدينة المنورة عن دخول مكة المكرَّمة لأداء عمرة القضاء؛ فقد كان من بنود صلح الحديبية أن يأتي المسلمون بعد عام من صلح الحديبية ليدخلوا مكة معتمرين ليس معهم إلا سلاح المسافر، ويخرج أهل مكة من مكة تمامًا ويتركون البلد الحرام للمسلمين لمدَّة ثلاثة أيَّام متواصلة.
وقد نهى الرسول r أن يتخلَّف عنها أَحَدٌ شهد الحديبية، فخرج ألفان من الصحابة y غير النساء والصبيان، وأحرم r من ذي الحُلَيْفَة، وظلَّ طُول الطريق من ذي الحُلَيْفَة حتى وصلوا مكة المكرمة يُلَبِّي هو وأصحابه، ليدخلها عزيزًا بعد أن هاجر منها مضطرًّا [144].
وكان الرسول r حريصًا على إظهار قوَّة المسلمين أمام أهل مكة قدر المستطاع، وكان من ذلك أنه r تسلَّح بالسلاح الكامل من المدينة المنورة، ولكنَّه كان وفيًّا بالعهد؛ فأبقاه خارج مكة مع سريَّة من الصحابة y عددهم مائتان بقيادة محمد بن مَسلمة t، وبعد أن انتهى الرسول من العمرة تبادل هؤلاء الحرَّاس المهمة مع مجموعة من المسلمين الذين أدَّوُا العمرة ليستطيعوا هم أيضًا أداء العمرة، كما دخل r مكة راكبًا ناقته الْقَصْوَاء والمسلمون حوله يحمونه بسيوفهم ويُحيطونه من كل مكان [145].
هذا، وقد وقع حدث عظيم في شهر صفر سنة ثمانٍ من الهجرة، وهو من أعظم ثمار الحديبية وعمرة القضاء، وهو إسلام ثلاثة من عمالقة مكة، هم: خالد بن الوليد، و عمرو بن العاص، و عثمان بن طلحة y أجمعين، وقد أسلموا في يوم واحد، وكان يومَ فتح ونصر كبير للإسلام والمسلمين، وهو ما عبَّر عنه الرسول r بقوله: " إِنَّ مَكَّةَ قَدْ أَلْقَتْ إِلَيْنَا بِأَفْلاَذِ أَكْبَادِهَا" [146].
وإذا نظرنا إلى الأحداث التي وقعت من قبائل المنطقة الشماليَّة مع المسلمين نجد أن الأمور كانت تتصاعد كثيرًا وتنذر بصدام ضخم ووشيك، ففي شهر جُمادى الآخرة من سنة ستٍّ هجريَّة اعترضت قبيلة جُذَام دِحْيَةَ الكلبي t رسول رسول الله r إلى هرقل، وقد سلبوا كلَّ ما كان معه من هدايا موجَّهة إلى رسول الله r، وكان هذا سببًا في إرسال سريَّة زيد بن حارثة t إلى منطقة حِسْمَى [147]، كما قامت قبيلة قُضَاعة في ربيع الأوَّل من سنة ثمانٍ هجرية باغتيال خمسةَ عشرَ صحابيًّا كانوا قد خرجوا للدعوة إلى الله تعالى، وقد عُرِفَت بسريَّة ذات أطلاح [148], ثم تفاقم الأمر كثيرًا حينما أرسل الرسولُ r الحارثَ بن عمير الأزدي t برسالة إلى عظيم بصرى بالأُرْدُنِّ يدعوه فيها إلى الإسلام، حيث اعترض طريقه شُرَحْبِيلُ بن عمرو الغساني عامل هرقل على منطقة البلقاء في الأُرْدُنِّ، ثم قيَّده وضرب عنقه [149]، وبعد هذا الحادث الذي يُعَدُّ بمنزلة إعلان حرب -فقد كان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم حتى عند أهل الجاهلية- زاد الأمر سوءًا، وبدأت الدولة الرومانيَّة ومعها نصارى الشام يتعقَّبون كلَّ مَن أَسْلَمَ ويقتلونه، حتى وصل الأمر إلى قتل والي مَعَان بالأُرْدُنِّ؛ لأنه أعلن إسلامه . | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:36 | |
| مؤتة
اشتدَّ ذلك على رسول اللَّه r، فجهز جيشًا قِوَامه ثلاثة آلاف مقاتل إلى مؤتة، هو أكبر جيش في تاريخ الإسلام حتى هذه اللحظة، وولَّى عليه زيد بن حارثة t الذي قاد قبل ذلك خمس سرايا متتالية، وإنْ قُتِلَ زيد يتولى جعفر بن أبي طالب، وإنْ قُتِلَ جعفر فعبد الله بن رواحة [150]!!
ورغم صعوبة المهمَّة المتمثِّلة في طول الطريق ووعورته وشدَّة الحرِّ، إلا أن معنويَّات الجيش الإسلامي كانت مرتفعة جدًّا، وخاصَّة أن الرسول r خرج بنفسه لتوديع الجيش، والذي حدَّد مهمَّته في دعوة هذه القبائل إلى الإسلام، وقتال شُرَحْبِيل بن عمرو الغساني ومَن عاونه، كما وصَّاهم r بقوله: " انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلاَ تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا وَلاَ طِفْلاً صَغِيرًا وَلاَ امْرَأَةً، وَلاَ تَغُلُّوا، وَضُمُّوا غَنَائِمَكُمْ وَأَصْلِحُوا وَأَحْسِنُوا، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" [151].
وما إن وصل الجيش الإسلامي إلى منطقة مَعَان بالأُرْدُنِّ في جُمادى الأولى لسنة ثمانٍ هجرية حتى وجد أنَّ الدولة الرومانيَّة قد ألقت بثقلها في هذا الصراع، وأعدَّت جيشًا هائلاً يبلغ قوامه نحو مائة ألف مقاتل، بل إنَّ العرب النصارى الموالين للرومان كانوا أيضًا قد أعدُّوا نحو مائة ألف أخرى، ليصل مجموع جيوش العدو إلى مائتي ألف مقاتل، وقد باتوا ينتظرون قدوم الجيش الإسلامي القادم من المدينة المنورة.
وما كان من المسلمين إزاء هذا الوضع الخطير إلا أن عقدوا مجلسًا استشاريًّا، استقرُّوا فيه على رأي عبد الله بن رواحة t الذي رأى المواجهة والدخول في حرب فاصلة ودون تردُّد، وقد قال في ذلك: "يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، وما نقاتل الناس بعدد ولا بقوَّة ولا كثرة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحُسْنَيَيْنِ: إما الظهور وإمَّا الشهادة".
وما إن أخذ المسلمون قرار الحرب حتى انطلقوا لأرض المعركة واصطفُّوا في مؤتة، حتى اقتربت ساعة الصفر لأشرس موقعة في تاريخ السيرة النبويَّة، حيث أمواج بشريَّة هائلة من الرومان ونصارى العرب تنساب إلى أرض مؤتة، ورجال قلائل -ولكنهم كالجبال- من المسلمين يقفون ثابتين في وجه أعتى قوَّة في العالم آنذاك.
وها هي ذي صيحات التكبير من المسلمين قد ارتفعت، وحَمَلَ الراية زيد بن حارثة t الذي أعطى إشارة البدء لأصحابه، وقد اندفع كالسهم صوب الجيوش الرومانيَّة، وكان هو أوَّل شهيد للمسلمين في هذه الغزوة، وحمل الراية بعده جعفر بن أبي طالب t فقاتل قتالاً لم يُرَ مِثْلُه، وأكثر الطعن في الرومان t حتى تكالبوا عليه، فقطعوا يمينه التي كان يحمل بها الراية، فحملها بشماله فقطعوها، فحملها t بعضديه قبل أن يسقط شهيدًا، ليأخذها من بعده عبد الله بن رواحة t صاحب قرار الحرب، حتى استُشهد هو الآخر، ومن بعده اصطلح المسلمون على خالد بن الوليد t وأعطوه الراية، فحملها وجاهد جهادًا عظيمًا حتى انقطعت في يده تسعة أسياف [152].
وقد استمرَّ القتال يومًا كاملاً ما تراجع المسلمون فيه لحظة واحدة، وإنما وقفوا كالسدِّ المنيع أمام طوفان قوَّات التحالف الرومانيَّة العربيَّة، واستمرَّ الحال على هذا الوضع حتى جاء المساء وتحاجز الفريقان، واستراح الرومان ليلتهم، لكن خالد بن الوليد بدأ في تنفيذ خُطَّة عبقريَّة بارعة للوصول بجيشه إلى برِّ الأمان، كان هدفها إشعار الرومان والعرب المتحالفِينَ معهم بأن هناك مددًا كبيرًا قد جاء للمسلمين؛ فيتسلَّل الإحباط إلى هؤلاء الأعداء.
وفي تنفيذ هذه الخُطَّة جعل خالد بن الوليد الخيل طَوَال الليل تجري في أرض المعركة تُثِير الغبار الكثيف، فيُخَيَّل للرومان أن هناك مددًا قد جاء للمسلمين، كما غيَّر من ترتيب الجيش حتى إذا رأوه الرومان في الصباح أيقنوا بوصول المدد إليهم، ثم بدأ خالد بن الوليد في اليوم التالي للمعركة بالتراجع التدريجي بجيشه إلى عمق الصحراء، الأمر الذي شعر معه الرومان بأنَّ خالدًا يستدرجهم إلى كمين في الصحراء، فتردَّدوا في متابعته، وقد وقفوا يشاهدون انسحاب خالد دون أن يجرءوا على مهاجمته أو متابعته، ونجح مراد خالد بن الوليد وسحب الجيش بكامله، ثم بدأ في رحلة العودة إلى المدينة المنورة سالمًا، وقد انحاز العدوُّ إلى بلاده، ولم يفكِّر في القيام بمطاردة المسلمين. | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:37 | |
| ذات السلاسل
بعد مؤتة بقي معاقبة قبيلة قُضَاعة، فقرَّر الرسول r إخراج جيش إليها والتي كانت منطقتها تسمَّى السلاسل، ومنه عُرِفَت تلك السريَّة باسم سريَّة ذات السلاسل, واختار الرسول r لقيادة هذه السريَّة عمرو بن العاص t [153]، وقد أرسل إليه مددًا في نحو مائتين من الصحابة من وجوه الأنصار والمهاجرين y، وعلى رأسهم أبو عبيدة بن الجراح، وتحت إمرته أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- وقد انتصر المسلمون وازدادت مكانة الدولة الإسلاميَّة هيبة ورهبة في قلوب أعدائها، وذاع صيتها في كل مكان.
أما اللحظة الفارقة في تاريخ المسلمين، بل في تاريخ الأرض، فقد تجلَّت في فتح مكة، والذي كان معناه النصر والسيادة والتمكين لدين الله U، قال عنه ابن القيم: "هو الفتح الأعظم الذي أعزَّ اللَّه به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين، ومن أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزِّه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين اللَّه أفواجًا، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجًا" [154].
[133] البخاري عن عبد الله بن مسعود: كتاب العلم، باب ما يذكر في المناولة وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان (64).
[134] ابن كثير: البداية والنهاية 4/304، 305.
[135] ابن هشام: السيرة النبوية 2/607.
[136] ابن سيد الناس: عيون الأثر 2/337.
[137] السهيلي: الروض الأنف 3/395، وابن حجر: فتح الباري 7/393.
[138] البخاري عن سلمة بن الأكوع: كتاب المغازي، باب غزوة خيب (3972)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة y، باب من فضائل علي بن أبي طالب t (2407)، والواقدي: المغازي ص644، 645، والطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/298، وابن كثير: البداية والنهاية 4/206.
[139] ابن كثير: البداية والنهاية 3/204.
[140] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/302-307، وابن كثير: البداية والنهاية 4/248.
[141] شمس الدين الصالحي: سبل الهدى والرشاد 5/136، 6/273، وابن القيم: زاد المعاد 2/415، 3/291، وابن سعد: الطبقات الكبرى 2/108.
[142] ابن هشام: السيرة النبوية 2/203 وما بعدها.
[143] البخاري عن جابر بن عبد الله: كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع (3905)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الخوف (843).
[144] الواقدي: المغازي ص732، 733، والطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/309 وما بعدها، وابن كثير: البداية والنهاية 4/258 وما بعدها.
[145] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/309، 310، وابن كثير: البداية والنهاية 4/261.
[146] ابن عساكر: تاريخ دمشق 16/219، 28/379، وابن كثير: البداية والنهاية 4/269.
[147] ابن هشام: السيرة النبوية 2/612، 613.
[148] ابن كثير: البداية والنهاية 4/274.
[149] الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 11/350، وابن سعد: الطبقات الكبرى 2/128.
[150] ابن هشام: السيرة النبوية 2/373.
[151] أبو داود عن أنس بن مالك: كتاب الجهاد، باب في دعاء المشركين (2614).
[152] ابن كثير: البداية والنهاية 4/281.
[153] ابن هشام: السيرة النبوية 2/623، 624.
[154] ابن القيم: زاد المعاد 3/347. | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:37 | |
| فتح مكة
كانت أسبابها حين نقضت قريش أحد بنود صلح الحديبية، وذلك بأن أعانت حليفتها بني بكر في حربها على خزاعة حليفة الرسول r، فأسرعت خزاعة تستغيث بالرسول r الذي لم يتردَّد في نصرتهم طبقًا لبنود المعاهدة [155].
ولمَّا أدركت قريش خطأها، وعلمت أنَّ احتمال الحرب وارد، قرَّرت أن تعتذر وتطلب من الرسول r أنْ يُطيل الهدنة، وأرسلت أبا سفيان إلى المدينة سفيرًا لذلك، إلا أنَّ الرسول r رفض أن يَرُدَّ عليه، وذلك ليُشْعِر أبا سفيان بمدى الجُرْم الذي أقبلت عليه قريش، فلم ييئس وذهب إلى أبي بكر، ثم عمر، ثم علي y؛ ليشفعوا له عند رسول الله r ويُجِيروا قريشًا، إلاَّ أنهم رفضوا، فرجع أبو سفيان إلى مكة وقد فشلت المهمَّة التي قام بها، وعليه بدأت قريش تترقَّبُ قدوم المسلمين [156].
وفي المدينة أمر الرسول r بالاستنفار العام، وأرسل استدعاءاته للمسلمين في القبائل المختلفة، وقد أخذ الحيطة والحذر، وأمر المسلمين جميعًا بالسرِّيَّة التامَّة، وألاَّ يخبروا أحدًا خارج المدينة المنورة بتوجُّه المسلمين إلى مكة المكرمة، إلا أنَّ حاطب بن أبي بلتعة t أخطأ خطأ كبيرًا بكشف سرِّ رسول الله r لمشركي قريش، وذلك حين أرسل إليهم رسالة يخبرهم فيها أن رسول الله r قادم إليهم، وكان الذي حمله على ذلك أنه خشي على أهله من بطش قريش، وليست له قبيلة كبيرة بمكة تُدافِع عن أسرته، وقد نزل الوحي يكشف للرسول r الأمر، واستطاع الرسول r أن يُرسل مَن يأتي بالرسالة، وهذا الصحابي الجليل لم يرتكب هذا الخطأ لأنَّه من المنافقين مثلاً، بل كانت لحظة ضعف خاف فيها على أسرته، وهو ما جعل الرسول r يعفو عنه [157].
وخرج المسلمون في العاشر من رمضان سنة ثمانٍ من الهجرة، واتَّجهوا مباشرة إلى مكة المكرمة، وفي الطريق لقي الرسولَ r عمُّه العباس بن عبد المطلب، وكان قد خرج بأهله وعياله مسلمًا مهاجرًا، كما لقيه ابن عمِّه أبو سفيان بن الحارث، وابنُ عمَّته عبد الله بن أبي أُمَيَّة، فأعرض عنهما؛ لِمَا كان يلقاه منهما من شدَّة الأذى، فشفعت لهما السيدة أُمُّ سلمة رضي الله عنها [158].
وواصل الجيش الإسلامي سيره حتى بلغ مَرَّ الظهران على مشارف مكة، وكان عددهم عَشَرة آلاف، بِيَدِهِم عَشَرة آلاف شعلة من النيران كمقدِّمة لحرب نفسيَّة هائلة، وقد ركب العباس ابن عبد المطلب t بغلة الرسول r وأخذ يبحث عن أَحَدٍ يُخبر قريشًا بقدوم الرسول r ليخرجوا ويستأمنوه، فوجد أبا سفيان وأقنعه أن يذهب معه إلى رسول الله r ليطلب له منه الأمان، وانصاع أبو سفيان لنصيحة العباس بن عبد المطلب t، وركب خلفه على بغلة الرسول r وانطلقا إليه r، وما إن رآه عمر بن الخطاب t حتى هَمَّ بقتله لولا إجارة العباس، وقد دار حوار بين الرسول r وأبي سفيان، وهو من أروع مواقف السيرة، نطق بعده أبو سفيان بالشهادتين، وأمَّنه الرسول r ومن يدخل داره [159].
ومن بعدها خرج أبو سفيان حتى دخل مكة وصرخ بأعلى صوته بعد ما رأى من قوَّة جيش المسلمين وعدده: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قِبَلَ لكم به. كما نادى عليهم بأن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرَّق الناس ودخلوا إلى ديارهم وإلى المسجد [160].
الفتح الأعظم
اقترب الرسول r من مكة، وبدأ يضع الخُطَّة العسكريَّة لدخولها، فقسَّم جيشه إلى أربعة فِرَقٍ: الأولى على رأسها خالد بن الوليد t، وهذه تدخل من جنوب مكة، والثانية على رأسها الزبير بن العوَّام t وتدخل من كَدَاء في شمال مكة المكرمة، والثالثة فرقة من المشاة بقيادة أبي عبيدة ابن الجراح t، أما الرابعة فهي فرقة الأنصار y وعلى رأسها سعد بن عبادة t، وفيها كان يسير رسول الله r، وقد أعطى أوامره للفِرَقِ الأربعة بالالتقاء عند الصفا بعد دخول مكة [161].
وفي هذا الجوِّ المفعم بسيطرة المسلمين على الأمور في مكة قام بعض رجال قريش بمحاولة يائسة للمقاومة، وهي جمع أوباش قريش -وهم العبيد والفقراء وعوامُّ الناس- لقتال الجيش الإسلامي، على أن يرأس هؤلاء عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وهما أشهر فُرسان قريش، ولمَّا علم الرسول r أخبار هذه الفرقة، أصدر أوامره بعدم مقاتلة إلاَّ مَن قاتلهم، كما أهدر r دماء مجموعة من كُفَّار مكة كانت قد ارتكبت جرائم بشعة في حقِّ الدولة الإسلاميَّة، وكانوا بضعة عَشَر رجلاً وامرأة [162].
ودخلت الجيوش الإسلاميَّة كما خطَّط لها رسول الله r، ومكث معظم أهل مكة في بيوتهم، وكانت شوارع مكَّة في الأغلب خالية من المارة، وكانت رغبة الرسول r الأكيدة أنْ لا يحدث قتال، وبالذات في هذا البلد الحرام وأحبِّ البلاد إلى قلبه r، ومع وضوح هذه الرغبة في كلام وأفعال الرسول r إلاَّ أنَّ بعض الصحابة كانت تراودهم أحلام الانتقام ممَّن أذاقوا المسلمين العذاب ألوانًا، ومن ذلك ما قاله سعد بن عبادة t سيد الأنصار وقائد كتيبتهم وهو يدخل مكة: "اليوم يوم الملحمة". فردَّ عليه الرسول r بقوله: " الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ". ونزع الراية من سعد وأعطاها لابنه قيس [163].
ودخلت الجيوش الإسلاميَّة مكة من كل مكان، ولم تلقَ قتالاً يُذْكَر إلا عند منطقة في جنوب شرق مكة اسمها الخَنْدَمَة، حيث تَزَعَّمَ عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية أوباش قريش، وقاتلوا في هذه المنطقة خالد بن الوليد t بفرقة قويَّة من الفُرسان، وما هي إلا لحظات حتى صارت الفرقة المشركة ما بين أسير وفارٍّ [164]، وفَتَحَت مكة أبوابها لخير البشر r يدخلها آمنا مطمئنًا عزيزًا، متواضعًا خاضعًا لله، خافضًا رأسه حتى كادت تمسُّ دابته، وسار الموكب المَهِيب الجليل حتى دخل صَحْنَ الكعبة؛ ليبدأ r ومن اللحظة الأولى في إعلان إسلاميَّة الدولة، وربانيَّة التشريع؛ وليُرَسِّخَ القاعدة الأصيلة: { إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لله} [الأنعام: 57].
وقد دانت مكة لحكم المسلمين بعد أقلِّ من يوم واحد من فتحها، وكان أوَّل شيء فعله r هو تكسير الأصنام، ثم أمر بلالاً t ليؤذِّن للصلاة، ثم لجأ الرسول r إلى وسيلة امتلاك قلوب الشعب الذي هُزِم على يديه r، فنادى على عثمان بن طلحة t من بني عبد الدار حَمَلَةِ مِفتاح الكعبة لسنوات طِوَال، وأمره أن يأتي بمفتاح الكعبة، وقد ظنَّ الجميع أن الرسول r سيأخذه منه ليُعْطِيَه أحد أقاربه، إلا أنه r وضع المفتاح مرَّة ثانية في يد عثمان بن طلحة، وقال: " هَاكَ مِفْتَاحُكَ يَا عُثْمَانُ، الْيَوْمَ يَوْمُ بِرٍّ وَوَفَاءٍ، خُذُوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً، لاَ يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلاَّ ظَالِمٌ". ثم وقف r في صَحْنِ الكعبة، ونادى على شعب مكة جميعًا: " مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟" فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. فقال في سماحة ورحمة: " أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفَ: { لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ" [165]. فأطلقهم جميعا مَنًّا بغير فداء، وهو ما جعل شعب مكة يجتمع مع الرسول r عند الصفا، وأخذوا يبايعونه على الإسلام إلا قليلاً منهم، وكان ممن أسلم سهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وفضالة بن عمير، وهند بنت عتبة.
ومع أن فتح مكة دفع الكثير من أهل الجزيرة إلى التفكير في الإسلام، إلا أن بعض القوى في الجزيرة العربيَّة أخذت موقفًا معاديًا منه، وشعرت أن هذا النموَّ للدولة الإسلاميَّة معناه ابتلاع القبائل الأخرى خلال زمن قصير، ومن أجل ذلك بدأت هذه القبائل في إعداد العُدَّة لحرب الدولة الإسلاميَّة قبل أن يتفاقم الوضع ويصبح خارج السيطرة، وكان من أخطر القبائل التي أخذت هذا النهج قبيلة هوازن، وهي فروع كثيرة جدًّا وأشهرها بنو نصر، وبنو سعد، وثقيف. | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:38 | |
| غزوة حُنَيْن
استطاع مالك بن عوف من بني نصر أن يجمع كل فروع هوازن تحت راية واحدة؛ فبلغ عددهم أكثر من 25000 مقاتل، كأكبر تجمُّع في معركة واحدة في تاريخ العرب قاطبة، وكان المُحَفِّزُ الوحيد الذي استخدمه مالك في ذلك هو الْقَبَلِيَّة, وقد أمرهم أن يأخذوا النساءَ والأطفال والأموال وكلَّ ممتلكاتهم إلى أرض القتال ليتحفَّز الجيش على القتال، وخرج بهم مالك إلى سهل أَوْطَاس بالقرب من حُنَيْن، وبدأ بتنظيم الجيش وترتيبه، وقد وضع الكمائن على جانبي سهل حُنَيْن حيث سيمرُّ المسلمون.
وما إن علم الرسول r بأخبار هوازن واستعدادها للحرب حتى بدأ في إعداد العُدَّة، وقرَّر الخروج للقتال بكامل طاقته العسكريَّة، فأخذ معه عَشَرة الآلاف الذين فتح بهم مكة، وأيضًا المسلمين الطلقاء الذين أسلموا عند الفتح وكانوا ألفين، فأصبح الجيش الإسلامي اثني عشر ألفًا، وهو أكبر عدد في تاريخ المسلمين حتى الآن، وسار الجيش في أبهى صورة عندما خرج من مكة المكرَّمة متوجِّهًا إلى وادي حُنَيْن حيث جموع هوازن هناك، وذلك في 6 من شوال سنة 8 هجرية [166].
وقد اغترَّ بعض المسلمين بعدد الجيش وعُدَّته فقالوا: "لن نُغْلَب اليوم من قِلَّة". وهو المرض الذي ذكره الله I فقال: { وَيَوْمَ حُنَيْن إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25].
فما هي إلاَّ دقائق من دخول الجيش الإسلامي وادي حُنَيْن حتى انهالت عليه الأسهم والرماح من كل مكان، وثارت خيول هوازن في وجوه المسلمين، وأُحِيط المسلمون من كل مكان، فخارت عزائمهم في لحظات, وفترت همَّتهم إلاَّ أقلَّ القليل، وأخذ معظم الجيش قرارًا واحدًا في لحظة واحدة، وهو الفِرار العشوائي في أي اتِّجاه.
أمَّا الرسول r فقد ثبت في هذه الموقعة ثباتًا عجيبًا، حتى كان يركض بدابَّته ناحية الكُفَّار والعباس t يمسك بلجام الدابَّة ليمنعها من التقدُّم خوفًا عليه r، وكان ينادي r بأعلى صوته: " أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِب، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِب [167] ، هَلُمُّوا إِلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ".
كما أمر r العباس بن عبد المطلب t أن ينادي على هؤلاء المبايعين فرفع العباس صوته ونادى: "يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب البيعة، الله الله، الكَرَّةَ على نبيكم، يا أصحاب السَّمُرة، يا أصحاب الشجرة" [168].
ثم إن الرسول r خصَّ الأنصار بالنداء فأَمَرَ العباس أن ينادي عليهم، فأجابوا في لحظة واحدة وبصورة جماعية: يا لبيك، يا لبيك، لبيك يا رسول الله، أَبْشِر نحن معك.
وعلى الرغم من الأزمة التي عاشها المسلمون إلا أنهم أَتَوْا مِن كل مكان يتدافعون ويتزاحمون على الرسول r، وما هي إلاَّ لحظات حتى كان مع الرسول r مائة من الرجال، واشتدَّت الحرب، وبدأ المسلمون في قتال عنيف بعدما علموا أن النصر ليس بالقوَّة العدديَّة، وأنه { وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ} [الأنفال: 10]، والذي أَذِنَ اللهُ U به فأنزل السكينة عليهم، فقاتلوا بثبات، وأنزل الرُّعْبَ في قلوب الكافرين، فولَّوْا مدبرين متنازلين بسهولة شديدة عمَّا حقَّقوه من نصر، كما أنزل الله U ملائكة من عنده: { وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26].
وقد انتهت المعركة بفِرار المشركين في لحظات معدودة، تاركين وراءهم أموالهم وأنعامهم وأكثر نسائهم وأولادهم، واندفع المسلمون خلفهم هنا وهناك يطاردونهم في كل مكان، وكانت غنيمة المسلمين يومئذٍ أكبر وأعظم غنائم تُحَصَّل في معركة واحدة في تاريخ العرب قاطبة.
الخروج إلى الطائف
لما انتصر المسلمون يوم حُنَيْنٍ، وفرَّتْ جيوشُ هوازن حتى وصلت في فِرارها إلى مدينة الطائف، سار الرسول r في جيشه الضخم متَّجهًا إليهم، حتى وصل إلى الطائف وعدد جيش المسلمين اثنا عشر ألفًا، وتوقَّع الجميع معركة هائلة بين المسلمين وبين هوزان وثقيف في حصون الطائف، إلاَّ أنَّ المشركين اختاروا المُكْثَ في حصونهم دون قتال.
ولم يَفُتَّ تَحَصُّنُ هوازن وثقيف في عزيمة الرسول r وصحابته الكرام، ولكنَّه r أمر بحصارهم، فقام أهل الطائف بإطلاق السهام والرماح على المسلمين، واشتدَّ رميهم حتى استُشهِد من المسلمين اثنا عَشَر صحابيًّا، ولم تكن سهام المسلمين تصل إلى الحصون، فكان القرار أخيرًا بالانسحاب إلى وادي الجِعْرَانة [169] حيث غنائم المسلمين، فتركهم r وهو يدعو لهم بقوله: " اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا وَأْتِ بِهِمْ" [170]. وذلك بعدما أشار عليه بعض الصحابة بالدعاء عليهم.
وفي وادي الجِعْرَانة بدأ الرسول r في تقسيم الغنائم الهائلة على الجيش المنتصر، وقد أعطى منها أبا سفيان، وحَكِيم بن حِزام، وهما من مسلمي الفتح، كما أعطى مَن يعتقدُ أنَّ في قلبه ضغينة للإسلام وحقدًا على الدولة الجديدة؛ إمَّا لدوافع قَبَلِيَّة، وإمَّا لأنهم أقارب لبعض مَن قُتِلُوا على أيدي المسلمين، أو أنه قد نُزِعَتْ منهم زعامتهم الشخصيَّة.
وبعد تقسيم الغنائم وإعطاء الرسول r للزعماء حديثي الإسلام من الخُمس الخاصِّ بالدولة وعدم إعطائه للسابقين، غضبت مجموعة من الأنصار، فرضَّاهم الرسول r ودعا لهم في هذا الموقف بقوله: " اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ" [171]. فبكوا حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: "رضينا برسول الله r قسمًا وحظًّا" [172].
وبعد انتهاء توزيع الغنائم بكاملها، ورضا كل فريق بما أخذ، حدثت مفاجأة ضخمة لم تكن متوقَّعة، فقد جاء وفد من قبيلة هوازن إلى وادي الجِعْرَانة، لإعلان الإسلام أمام النبي r، وكان الوفد يمثِّل كلَّ بطون هوازن ما عدا ثقيفًا، وذلك بعد أقلّ من شهرين من حرب حُنَيْن الهائلة، بعد أن فقدوا كل شيء، وخسروا نساءهم وأبناءهم وأموالهم وأنعامهم. وقد كان الموقف في غاية الحرج، ويتَّضح منه أنهم ما أَتَوا حُبًّا في الإسلام وإنما جاءوا ليستردُّوا بعض ما ذهب منهم.
وهنا خَيَّرهم الرسول r بين أموالهم ونسائهم فاختاروا نساءهم، ثم قال r في تجرُّد: " أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ" [173]. وهو ما تبعه عليه المسلمون، فعاد السبي كلُّه إلى هوازن، ودخلت في الإسلام بنفس راضية، وقد أمَّن r مالك بن عوف، وأقرَّه على زعامة هوازن [174].
هذا، وبعد فتح مكة وانتصار حُنَيْنٍ دانت قبائل عربيَّة كثيرة للمسلمين، وأصبحت الجزيرة العربيَّة دولة إسلاميَّة لها وضعها وكيانها، ولا شكَّ أنَّ ذلك لفت أنظار الدولة الرومانيَّة العظمى -التي تقع في شمال الجزيرة العربيَّة- ومن شايعها من قبائل العرب النصرانيَّة؛ فتجمَّعوا جميعًا في منطقة البلقاء -الأُرْدُنِّ حاليًا- يريدون دولة الإسلام، وهو ما كان يتوقَّعه الرسول r.
وبمجرَّد أن حدث هذا التجمُّع على بعد مئات الكيلومترات من المدينة، بدأ الرسول r يأخذ القرار في ضوء هذه المعرفة المبكِّرة، وقرَّر الخروج إلى تبوك، رغم الحرِّ الشديد، واقتراب موسم جني الثمار، ورغم المسافة البعيدة، والعدوِّ الرهيب الذي لا يتخيَّل العرب لقاءه.
وفتح الرسول r باب الجهاد علانيةً, ودعا الجميع للجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، وحدث ما توقَّعه الرسول r من تمايز الصفِّ المسلم تمايزًا واضحًا، فظهرت طبقة عمالقة الإيمان، وعلى رأسهم أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف y، كما ظهرت طبقة المنافقين والمتخلِّفين. | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:39 | |
| الخروج إلى تبوك
خرج الجيش بالفعل إلى تبوك في رجب سنة تسع من الهجرة، وقد وجد عجبًا، لقد تحقَّق نصر هائل للجيش الإسلامي وللأُمَّة الإسلاميَّة، ولكنه نصر بلا قتال؛ فلقد فرَّت الجيوش الرومانيَّة عندما علمت بقدوم رسول الله r، وفرَّت معها قبائل العرب المُتَنَصِّرة، وقد أصرَّ الرسول r على البقاء في تبوك بضعة عَشَر يومًا، ثم توَّج هذه الرحلة بإرسال سَرِيَّة من المسلمين قوامها 420 فارسًا بقيادة خالد بن الوليد t إلى دُومَة الجَنْدَل، وذلك لأسر أُكَيْدِر بن عبد الملك الكندي، وكان ملكًا نصرانيًّا ساعد الرومان في حربهم ضدَّ المسلمين، فأسره وأتى به إلى رسول الله r، ثم صالحه رسول الله r بعد ذلك على الجزية، وحقن دمه، بل وأتى ملوك وأمراء مدن الشام المتاخمة للجزيرة العربيَّة يصالحون رسول الله r على الجزية [175].
عام الوفود
كان من نتيجة هذه الغزوة أن سيطر المسلمون سيطرة كاملة على شمال الجزيرة العربيَّة، وسقطت هيبة الرومان وأعوانهم؛ ممَّا يسَّر فيما بعد الفتوح الإسلاميَّة في بلاد الشام، كما كان من آثارها عِلم العرب أنهم ليس لها طاقة بحرب المسلمين، ولذلك أخذت القبائل العربيَّة قرارًا شبه جماعي بالقدوم إلى المدينة المنورة للتواصل مع رسول الله r, وهو ما عُرِف بعام الوفود، وهو العام التاسع الهجري؛ وكان عددها على الأقلِّ ستِّين وفدًا، ووصل في بعض التقديرات إلى أكثر من مائة، وكان من أهمِّها وفد نصارى نَجْران [176].
وفي آخر السنة التاسعة أرسل رسول الله r وفدًا من المسلمين للحجِّ, ولم يذهب هو معهم, وإنما أَمَّر على الناس أبا بكر الصديق t وكان سببُ عدم ذهابه r أن الحجَّ كان مفتوحًا للمسلمين والمشركين سويًّا، وكان المشركون يطوفون بالبيت عرايا, فقال r: " لاَ أُحِبُّ أَنْ أَحُجَّ حَتَّى لاَ يَكُونَ ذَلِكَ". وبعد خروج الوفد نزل صدرُ سورة براءة ببعض التشريعات المهمَّة في تعامل المسلمين مع المشركين، وفيها إعلان مصيريٌّ بالنسبة للشِّرْكِ في الجزيرة العربيَّة، وقد تبيَّن ذلك في إعلان علي بن أبي طالب t: " لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ مُؤْمِنٌ, وَلا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَان, وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ, وَلا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ" [177].
وكان هذا بمنزلة إعلان مباشر للمشركين أنه بعد انقضاء الأجل المضروب في الآيات، فإنَّ الحرب معلَنة عليهم, وواقع الأمر أنَّ معظم العرب المشركين دخلوا في الإسلام في خلال هذه المدَّة المضروبة لهم, ولم يبقَ إلاَّ جيوب قليلة أرسل لها رسول الله r بعوثًا حربيَّة، وصالحها على الإسلام.
[155] ابن هشام: السيرة النبوية 2/389-391.
[156] ابن كثير: السيرة النبوية 3/532، 533.
[157] ابن هشام: السيرة النبوية 2/398، 399.
[158] المصدر السابق 2/400.
[159] ابن هشام: السيرة النبوية 2/403.
[160] المصدر السابق 2/404، 405.
[161] السابق نفسه 2/406.
[162] ابن كثير: البداية والنهاية 4/341.
[163] الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 5/221، وابن حجر: فتح الباري 8/9.
[164] ابن هشام: السيرة النبوية 2/407.
[165] ابن هشام: المصدر السابق 2/411، وابن القيم: زاد المعاد 3/356، والسهيلي: الروض الأنف 4/170، وابن كثير: السيرة النبوية 3/570، وكذلك ابن حجر: فتح الباري 8/18، وقال الألباني: سنده ضعيف مرسل.
[166] ابن هشام: السيرة النبوية 2/437.
[167] البخاري عن البراء بن عازب: كتاب الجهاد والسير، باب من صف أصحابه عند الهزيمة ونزل عن دابَّته واستنصر (2772).
[168] مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين (1775).
[169] الجعرانة: بكسر أوله وتسكين العين وتخفيف الراء، وقيل: بكسر عينه وتشديد رائه. انظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان 2/142.
[170] الترمذي عن جابر بن عبد الله: كتاب المناقب، باب مناقب في ثقيف وبني حنيفة (3942).
[171] البخاري عن أنس بن مالك: كتاب التفسير، سورة المنافقون (4623).
[172] ابن هشام: السيرة النبوية 2/499، 500.
[173] النسائي عن عبد الله بن عمرو (3688)، وأحمد (6729) وقال شعيب الأرناءوط: حسن. وابن هشام: السيرة النبوية 2/488، وابن كثير: السيرة النبوية 3/668.
[174] ابن هشام: السيرة النبوية 2/491.
[175] ابن كثير: البداية والنهاية 5/22.
[176] ابن هشام: السيرة النبوية 1/572.
[177] البخاري: كتاب الحج، باب لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك (1543)، وابن حبان (3820). | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:40 | |
| حجة الوداع
بهذا الإعلان وضحت الرؤية لعموم سكان الجزيرة العربيَّة سواء من المسلمين أو من المشركين, وبعدها بقليل دخلت أُمَّة العرب جميعًا في الإسلام, ومن ثَمَّ تهيَّأت الجزيرة العربيَّة ومكة المكرمة لاستقبال خير البشر r في حجِّ العام القادم، العام العاشر من الهجرة؛ ليحجَّ حجَّته الوحيدة والمشهورة, والتي عُرِفَتْ في التاريخ بحجَّة الوداع، وسط عشرات الألوف من المسلمين دون مشرك واحد لأوَّل مرَّة في تاريخ مكة.
وقد خرج الرسول r من المدينة المنوَّرة لأربع بَقِينَ من ذي الْقَعْدَة من السنة العاشرة من الهجرة، وأحرم من ذي الحليفة، وانطلق في اتِّجاه مكة المكرمة، وقد أهلَّ بالحجِّ والعمرة معًا، فكان قارنًا بينهما، واستمرَّت الرحلة المباركة ثمانية أيَّام، ووصل الرسول r إلى مكة المكرمة بعد صلاة الفجر في اليوم الرابع من ذي الحجة، فلمَّا دخل مكة اغتسل، ثم ذهب إلى البيت الحرام فطاف بالكعبة, ثم سعى بين الصفا والمروة ولم يتحلَّلْ من إحرامه؛ لأنه كان قارنًا بين الحجِّ والعمرة.
وفي اليوم الثامن من ذي الحجَّة، وهو يوم التروية توجَّه r إلى مِنى، فصلَّى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وبات فيها، ثم صلَّى الصبح وانتظر حتى أشرقت الشمس، فتوجَّه إلى عرفات، ونزل هناك بِقُبَّةٍ ضُرِبَتْ له في نَمِرة وانتظر حتى زالت الشمس، فقام وخطب في الناس خُطبة عظيمة جامعة [178]، ونزل قول الله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]. وعندما نزلت الآية السابقة بكى عمر بن الخطاب t فقيل له: ما يُبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان. حيث شعر عمر بن الخطاب أن نهاية حياة الرسول r قد اقتربت [179].
وبعد الخُطبة ونزول الآية الكريمة، أَذَّن بلالٌ للظهر وأقام الصلاة، وصلَّى الرسول r الظهر والعصر جمعًا وقصرًا، ثم ركب r ناقته الْقَصْوَاء حتى أتى الموقف بعرفة، فاستقبل القبلة وأخذ في الدعاء والتضرُّع إلى الله U حتى غربت الشمس، فركب ناقته r واتَّجه إلى المزدلفة فصلى هناك المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ثم نام هذه الليلة حتى طلع الفجر، فصلاَّه بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المَشْعَرَ الحرام بالمُزْدَلِفَة، فاستقبل القبلة فدعا الله U وكبَّره وهلَّله حتى كادت الشمس أن تطلع، وقبل طلوع الشمس تحوَّل من جديد إلى مِنى، فتوجَّه مباشرة إلى الجمرة الكبرى، حيث رماها بسبع حصيات، وهو يُكَبِّر مع كلِّ حصاة، ثم انصرف بعد ذلك إلى المنحر فنحر بنفسه ثلاثًا وستِّين ناقةً، وأمر عليًّا أن ينحر باقي المائة، وقد انتظر r حتى طُبِخ جزء من هذه النوق، وأكل منه [180].
وفي هذا اليوم بِمِنى خطب في الناس خُطبة أخرى ذكَّرهم فيها ببعض ما ذكره في خُطبة يوم عرفة، وبعد الخُطبة دعا حالقه فحلق له رأسه، ثم ركب إلى مكة حيث طاف طواف الإفاضة، ثم صلَّى بمكة الظهر، وشرب من ماء زمزم، ثم عاد مرَّة أخرى إلى مِنى وبات فيها ليلته. | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:41 | |
| وصايا الرسول للأمة
في اليوم الثاني وهو الحادي عَشَرَ من ذي الحجَّة انتظر زوال الشمس، ثم توجَّه إلى الجمرات فرمى سبع حصيات عند كل جمرة، وخطب في ذلك اليوم خُطبة أخرى، وقد مكث r في مِنى أيَّام التشريق الثلاثة، ثم توجَّه إلى مكة فطاف بها طواف الوداع، ثم توجَّه بعده مباشرة إلى المدينة المنورة، وهكذا انتهت حجَّة الوداع، الحجَّة الوحيدة التي حجَّها r [181].
وكان من أهمِّ وصاياه فيها:
- " تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَدًا، كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ".
- " تَعْلَمُنَّ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ أَخٌ لِلْمُسْلِمِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِخْوَةٌ".
- " إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إِلَى أَنْ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا".
- " إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ".
- " رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ" [182].
وعاد رسول الله r إلى المدينة بعد هذا الحجِّ العظيم، وفي شهر صفر بدأ رسول الله r في إعداد بَعْثٍ حربي جديد للشام لقتال الروم الذين قتلوا والي مَعَان عندما أسلم، وأَمَّر r على الجيش أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما [183]، ليرسِّخ أمرين في غاية الأهمِّيَّة: الأوَّل ليس المهمُّ مَن هو القائد، ولا نسبه، ولا عمره، ولكنَّ المهمَّ هو كفاءته، وأنه يحتكم في كلِّ أموره إلى كتاب الله وسُنَّة نبيِّه r. و الأمر الثاني: فهو أن طاقات الشباب هائلة، وأكثر بكثير من تخيُّلِنَا، والرسول r لن يُضَيِّع جيشه، ولن يخاطر بمصير أُمَّته بزعامة مَن لا يتَّصِفُ بالكفاءة.
جُهِّز بالفعل الجيشُ المهمُّ، وخرج من المدينة المنورة في اتِّجاه الشام في أواخر شهر صفر سنة إحدى عَشْرَة من الهجرة، ولكن بمجرد خروجه، وعلى بُعْدِ خمسة أميال من المدينة سمع الجيش بمرض رسول الله r فانتظروا مكانهم، ولم يُكْمِلُوا الطريق، وذلك للاطمئنان على صحَّة الحبيب r، وبدأ مرض الرسول r الذي كان في نهايته الوفاة.
[178] ابن هشام: السيرة النبوية 2/603، 604.
[179] ابن كثير: البداية والنهاية 5/234.
[180] ابن كثير: البداية والنهاية 5/206.
[181] ابن كثير: السيرة النبوية 4/409.
[182] مسلم عن جابر بن عبد الله: كتاب الحج، باب حجة النبي r (1218).
[183] ابن هشام: السيرة النبوية 2/641، 642.
وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
اشتدَّ المرض برسول الله r، فخرج في اليوم الخامس من ربيع الأوَّل إلى بيت عائشة -رضي الله عنها- وهو لا يقوى على السير، فكان يتحامل على الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- وقضى هذا الأسبوع الأخير من حياته كلَّه في بيت عائشة -رضي الله عنها- والتي قالت: "ما رأيت رجلاً أشدَّ عليه الوجع من رسول الله r" [184].
وفي يوم الأربعاء السابع من ربيع الأوَّل، قبل الوفاة بخمسة أيَّام، ارتفعت درجة حرارته r جدًّا، واشتدَّ ألَمُه حتى أُغمِي عليه r، فلمَّا أفاق أراد أن يخرج إلى المسلمين حتى يوصِيَهم فما استطاع أن يتحرَّك، فقال لأهله: " أهَرِيقُوا عَلَيَّ سَبْعَ قِرَبٍ مِنْ آبَارٍ شَتَّى، حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى النَّاسِ، فَأَعْهَدَ إِلَيْهِمْ" [185]. فأجلسوه في مخضب -إناء لغسل الثياب- وصبُّوا عليه الماء حتى طفق يقول: " حَسْبُكُمْ، حَسْبُكُمْ". وشعر r بالنشاط؛ فقام إلى المسجد وهو معصوب الرأس، وصَعِدَ المنبر، واجتمع الناس حوله ينتظرون ما يقول في هذه اللحظات الصعبة، وكان رسول الله r حتى هذه اللحظة لا يمتنع عن مقابلة الناس، ولا يمتنع عن الصلوات في المسجد مع شدَّة تَعَبِهِ، خطب r في الناس فقال: " لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ" [186].
وكانت تلك إشاراتٍ شديدةَ الوضوح باقتراب أجله، وتحذيرًا شديدَ الوضوح مِن الوقوع في أخطاء السابقين من الأمم، ثم عرض نفسه للقِصاص، فقال: " مَنْ كُنْتُ جَلَدْتُ لَهُ ظَهْرًا، فَهَذَا ظَهْرِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، وَمَنْ كُنْتُ شَتَمْتُ لَهُ عِرْضًا فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ" [187]. يقول ذلك r وهو الذي لم يَظْلِم في حياته أحدًا قطُّ، بل كان دائم التنازل عن حقِّه، وما غضب لنفسه قطُّ، وهو الذي لم يتلفَّظ بفُحش ولا سوء حتى في أشدِّ مواقف حياته صعوبة.
ثم نزل r مِن على المنبر، وكان وقت الظهر قد حان، فصلَّى الظهر بالناس ثم صَعِدَ المنبر من جديد، وعاد لعرض نفسه للقِصاص، ثم ألحَّ على الناس أن يذكروا لهم حقًّا عنده، فقام رجل فقال: إن لي عندك ثلاثة دراهم. فقال: " أَعْطِهِ يَا فَضْلُ" [188]. فأعطاه، ثم أوصى الرسول r بالأنصار، ثم قال بعد ذلك: " إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ" [189]. فبكى أبو بكر، وقال: فديناك بآبائنا وأمَّهاتنا. قال أبو سعيد الخدري (راوي الحديث): فعجبنا له. فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ, يُخْبِرُ رسولُ الله r عن عبدٍ خيَّره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمَّهاتنا.
فلم يُدرك عموم الصحابة ساعتها أن الرسول r هو العبد المقصود بالتخيير، ولكنَّ أبا بكر بما له من حسٍّ مرهف وعلم واسع أدرك ذلك الأمر فبكى، وقال مقولته، يقول أبو سعيد الخدري t: فكان رسول الله r هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا.
وكان r حتى ذلك اليوم وبرغم مرضه يصلِّي بالناس كلَّ الصلوات، فصلَّى بهم في ذلك اليوم الصبح والظهر والعصر والمغرب، ثم عاد إلى بيته r وقد ثَقُلَ عليه المرض حتى ما قدر على أيَّة حركة، فسأل: " أَصَلَّى النَّاسُ؟" وهو يقصد صلاة العشاء، قال الصحابة: لا، هم ينتظرونك. وقد أراد r الاغتسال لتخفيف درجه حرارته، ولبَثِّ النشاط في جسمه؛ ليخرج لصلاة العشاء، وحاول كثيرًا، ولكن غلبه المرض، فما زال يردِّد: " أَصَلَّى النَّاسُ؟ أَصَلَّى النَّاسُ؟" تقول عائشة رضي الله عنها: والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي r لصلاة العشاء الآخرة.
وهنا قرَّر r أن يُنِيبَ عنه رجلاً ليؤمَّ المسلمين في الصلاة، فاختار أبا بكر الصديق t، فقال رسول الله r: " مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ" [190]. فخافت عائشة -رضي الله عنها- أن يتشاءم الناس بأبيها، إذا قام مقام رسول الله r، فحاولت أن تُثنيه عن هذا القرار، لكنَّه r أصرَّ على اختيار أبي بكر لهذا الأمر، وبالفعل صلَّى أبو بكر t بالناس صلاة العشاء من ذلك اليوم الخميس الثامن من ربيع الأوَّل سنة إحدى عشرة من الهجرة.
وفي يوم الجمعة صلَّى أبو بكر جميع الصلوات بالمسلمين وخطب بهم الجمعة، ولم يستطع الرسول r الحركة مطلقًا، وفي يوم من الأيَّام التي صلَّى فيها أبو بكر بالناس وهي أيَّام الخميس والجمعة والسبت والأحد، وفجر الاثنين كشف رسول الله r ستارة حجرته والناس صفوف خلف أبي بكر، فقال وهو معصوب رأسه: " اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ". قالها ثلاثًا، ثم قال بعدها مخاطبًا الناس: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ تَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الرُّؤْيَةُ الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ، أَلا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ U ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ" [191]. | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:42 | |
| وفي يوم السبت العاشر، أو الحادي عشر من ربيع الأوَّل، صلَّى أبو بكر t جميع الصلوات بالناس، لكن في صلاة الظهر شعر رسول الله r في نفسه خِفَّةً، فقرَّر محاولة الخروج لصلاة الجماعة مع المسلمين، فخرج يُهَادى -يستند- بين رجلين؛ هما العباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- ورِجْلاهُ تخطَّان في الأرض، حتى وصلا به إلى الصفِّ الأول، فلما أحسَّ أبو بكر بقدوم الرسول r أراد أن يتأخَّر، فأومأ إليه النبي r: أنْ مكانَك، ثم أُتِيَ به حتى جلس إلى جنب أبي بكر t من ناحية اليسار، فكان الرسول r يُصلِّي جالسًا لا يقوى على القيام، وأبو بكر يُصَلِّي بصلاته، ويرفع صوته فيصلِّي الناس بصلاة أبي بكر، لقد كان مجهودًا هائلاً من رسول الله r كي لا يُفَوِّتَ صلاةً واحدةً مع الجماعة، وقد وصل إلى هذه الحالة التي وصفنا من التعب والمرض والإغماء.
وتخلَّص رسولُ اللهِ r من كلِّ بقايا الدنيا التي عنده على بساطتها وقلَّتها، فأعتق مَنْ تبقَّى من غلمانه، وتصدَّق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب المسلمين أسلحته، ولم يترك في بيته عند موته من الطعام إلاَّ أقلَّ القليل.
ثم جاء يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة إحدى عَشْرَةَ من الهجرة، وهو اليوم الذي شهد أعظم مصيبة في تاريخ البشريَّة، وأشدَّ كارثة تعرَّض لها المسلمون، هذا هو اليوم الذي شهد وفاة الرسول r.
لقد صلَّى أبو بكر t صلاة الصبح بالناس، وكانت هذه هي الصلاة السابعة عشرة التي يُصَلِّيها بالناس في وجود الرسول r، وفي أثناء هذه الصلاة حدث أمر أسعد المسلمين كثيرًا، وعوَّضهم عن ألم الأيَّام السابقة التي مرض فيها الرسول r، يقول أنس t: كان أبو بكر يُصَلِّي بنا في وجع النبي r الذي تُوُفِّيَ فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة، فكشف النبي r ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم، وجهه جميل مضيء، ثم تبسَّم يضحك، فَهَمَمْنَا أن نُفْتَنَ من الفرح برؤية النبي r، فنكص [192] أبو بكر على عقبيه لِيَصِلَ الصفَّ، وظنَّ أن النبيَّ r خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا النبي r أنْ أتمُّوا صلاتكم، وأرخى الستر، ولم يأتِ عليه في الدنيا صلاة أخرى [193].
ولمَّا ارتقى الضحى من ذلك اليوم دعا رسول الله r ابنته فاطمة -رضي الله عنها- فلمَّا رآها رسول الله r رَحَّب بها، ثم أجلسها بجواره، ثم سارَّها، فبكت بكاء شديدًا، فلمَّا رأى حزنها سارَّها الثانية، فإذا هي تضحك, فسألَتْهَا عائشةُ عن ذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقالت: أمَّا حين سارَّني في الأمر الأوَّل فإنه أخبرني: " أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ قَدْ عَارَضَهُ بِهِ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلا أَرَى الأَجَلَ إِلاَّ قَدِ اقْتَرَبَ، فَاتَّقِي اللهَ وَاصْبِرِي، فَإِنِّي نِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ". قالت: فبكيتُ بكائي الذي رأيتِ، فلمَّا رأى جزعي سارَّني الثانية، قال: " يَا فَاطِمَةُ، أَلاَ تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ؟" قالت: فضحكتُ ضحكي الذي رأيتِ [194].
وأخذ الألم يشتدُّ برسول الله r، واقتربت اللحظات الأخيرة من حياته r، وهو يريد أن ينصح أُمَّته حتى آخر أنفاسه، فيقول أنس t: كانت عامَّة وصيَّة رسول الله حين حضره الموت: " الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ" [195]. حتى جعل رسول الله r يُغَرْغِر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه. | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:43 | |
| لحظات الفراق
كانت آخر دقائق في حياة الحبيب r، تقول السيدة عائشة -رضي الله عنها- أنَّ أخاها عبد الرحمن دخل ومعه سواك، فرأت النبي ينظر إليه فعلمت أنه يريد أن يستاك، فأعطته له بعد أن لَيَّنَتْه، فاستاك به، وبين يديه رَكْوَة -إناء من جلد- فيها ماء، فجعل يُدْخِل يديه في الماء فيمسح بها وجهه يقول: " لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ" [196]. وعندما فرغ من السواك r رفع يده أو إصبعه، وشخص ببصره نحو السقف، وتحرَّكت شفتاه بكلمات يُتمتم بها، أصغت عائشة -رضي الله عنها- إليه فسمعته r يقول: " مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى، اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى، اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى، اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى" [197]. ثم مالت يده، وقُبِضَت رُوحه r، ثم تلى أبو بكر في خطبته للناس قول الله U: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، فأدرك عندها الجميع أن رسول الله t قد تُوُفِّيَ بالفعل.
وفي ليلة الأربعاء لثلاث عَشْرَة من ربيع الأوَّل سنة إحدى عَشْرَة أودع الصحابة y رسول الله r قبره، لتُغْلَقَ أعظمُ صفحة من صفحات التاريخ البشري؛ صفحة القُدْوَة الأمين، وخير البشر، وأفضل الأنبياء، مات r لتبقى حياته نبراسًا لأبناء الأُمَّة من بعده، تنير لهم الطريق وتذلِّل أمامهم الصعاب.
[184] البخاري: كتاب المرضى، باب شدة المرض (5322). [185] الدارمي عن عائشة رضي الله عنها (81)، والطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/226، وابن هشام: السيرة النبوية 2/648، وابن كثير: السيرة النبوية 4/453. [186] البخاري: أبواب المساجد، باب الصلاة في البيعة (425)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهى عن بناء المساجد على القبور... (529)، وأحمد (7352) واللفظ له. [187] الطبراني: المعجم الكبير (718). [188] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/434، وابن كثير: البداية والنهاية 5/251. [189] البخاري عن أبي سعيد الخدري: كتاب فضائل الصحابة، باب هجرة النبي r وأصحابه إلى المدينة (3691)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة y، باب من فضائل أبي بكر الصديق t (2382). [190] البخاري: كتاب الجماعة والإمامة، باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة (646) [191] مسلم عن عبد الله بن عباس: كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود (479)، والسهيلي: سبل الهدى والرشاد 12/246-258. [192] نَكَصَ الرجلُ يَنْكِصُ: رجعَ إِلى خَلْفِه، انظر: ابن منظور: لسان، مادة نكص 7/101. [193] ابن هشام: السيرة النبوية 2/652، 653. [194] البخاري: كتاب الاستئذان، باب من ناجى بين يدي الناس ومن لم يخبر بسر صاحبه فإذا مات أخبر به (5928) [195] ابن ماجه: كتاب الوصايا، باب هل أوصى رسول الله r (2697)، وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح ابن ماجه (2183). [196] البخاري: كتاب المغازي، باب مرض النبي r ووفاته (4184). [197] البخاري: كتاب الدعوات، باب دعاء النبي r: اللهم الرفيق الأعلى (5988)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة y، باب في فضل عائشة رضي الله تعالى عنها (2444). | |
|
| |
شهدشهد عضو فعال
الجنس : المشاركات : 175 نقاط التميز : 31 تاريخ التسجيل : 08/06/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأربعاء 10 يونيو - 20:09 | |
| فديت الحلو إلي يراسلني وما ينساني تفداه روحي وعيوني ويا عساه دوم سالم | |
|
| |
| السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها | |
|