| السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها | |
|
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:18 | |
| بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع طويل لكنه مفيد
الرسول وبناء الأمة
شمسٌ أشرقت في سماء الإنسانيَّة، وقد عزَّ أن تطلع في سمائها مثلها، ونورٌ سطع في ربوع الدنيا فأنار في جنباتها، ومثلٌ أعلى في كل مناحي الحياة، وخاصَّة الإنسانيَّة والاجتماعيَّة، على أعظم ما يكون من الوضوح والكمال والاقتداء، وقَبْلَ ذلك فهو رسولٌ أيَّده الله وعصمه بوحي من عنده وتوفيقٍ من لدنه!
وسيرته r تحمل نماذج متعدِّدة؛ فهو كَفَرْدٍ: ملتزمٌ في سلوكه، مستقيمٌ في أخلاقه، صادق وأمين مشتهر بذلك بين قومه، وهو كرئيس دولة: حاذق حكيم وعادل رحيم، وهو كقائد: سياسي ماهر وحربي محنَّك، وهو كزوج: مثالي ناجح في بيته ومع زوجاته، وهو كأب: حنون رحيم مع أولاده، وهو كداعية: قمَّةٌ في الدعوة إلى الله، باذلٌ غاية جهده ومنتهى طاقته في سبيل إبلاغ رسالته ومهمَّته، وهو كمسلم: راهب بالليل فارس بالنهار، حُلو المعاشرة لطيف الفكاهة سهل الطبع، وفضلاً عن ذلك فسيرته r مثال واضح ونموذج عملي واقعي في طريق بناء الأمم والمجتمعات، صغرت في ذلك أم كبُرت!
فقد استطاع رسول الله r بالمنهج الرباني الذي أُوحي إليه أن يبني أُمَّة من لا شيء، وأن يجمع العرب والعجم على دين واحد، ومبدأ واحد، وأن يُقِيم حضارة استحال على الزمان أن يَجُودَ بمثلها، لقد كان تغييرًا هائلاً ذلك الذي أحدثه r في الدنيا يوم بُعث فيها، ولا شكَّ أن دراسة تجربته ليست فقط أمرًا مفضَّلاً أو محبَّبًا، ولكنها أمر واجب على كل مسلم أراد النجاة في الدنيا والآخرة، وأراد لأُمَّته العزَّة والكرامة والسيادة والريادة.
أحوال العالم وجزيرة العرب قبل بعثة النبي
لعلَّ العجيب في أمر بَعثته r إنَّما يكمن في ذلك التوقيت الذي بُعث فيه؛ فقد بُعث r والعالم فوضى يأكل بعضه بعضًا، وقد ساد الظلم وفشا الفجور وكثرت الآثام والشرور؛ فها هي دولة الروم العظيمة المترامية الأطراف منقسمة إلى قسمين: الروم الشرقية وعاصمتها روما، والروم الغربية وعاصمتها القسطنطينية (إستانبول حاليًا)، والتي كانت تحمل لواء النصرانيَّة في العالم، وبينهما تنازع عقائدي حيث المذهب الكاثوليكي والمذهب الأرثوذكسي، ومن الناحية الأخلاقيَّة أُصِيبت الدولة بانحلال خُلُقي جسيم، لم يَقِلَّ عنه الانحلال الاجتماعي، والذي تبدَّى في المفارقة الكبيرة بين طبقات المجتمع، والتي كان يمثِّلها غالبًا: السادة والعبيد [1].
أمَّا دولة الفرس فكانت قد شهدت فسادًا حضاريًّا بكل المقاييس؛ إذ كانوا يعبدون النار، ويُقَدِّسون ملوكهم (الأكاسرة)، معتقدين أن الدماء الإلهيَّة تسري فيهم، كما فشا فيهم الفساد الأخلاقي، حتى وصل الحال بهم إلى الزواج من محارمهم (البنات والأخوات)، وقد انقسم المجتمع أيضًا إلى سبع طبقات اجتماعيَّة تَتَرَتَّب تنازليًّا كما يلي: الأكاسرة، ثم الأشراف، ثم رجال الدين، ثم قواد الجيش، ثم المثقَّفين من الأطباء والأدباء والعلماء، ثم الدَّهَاقِين "رؤساء القبائل"، ثم عامَّة الشعب من الفلاَّحين والعمَّال والتُّجار والعبيد ويمثِّلون 90% من المجتمع، ومع ذلك فليس لهم حقوق مطلقًا [2]!!
وأمَّا أوربا فقد عاشت -قبل الإسلام وحتى الفتح الإسلامي- في صراعات وحروب مستمرَّة، وكانوا أبعد ما يكونون عن النظافة والأخلاق؛ ومن ذلك أنهم كانوا لا يَسْتَحِمُّونَ إلاَّ مَرَّةً في العام، كما انتشر بينهم الظلم والاضطهاد، وكان بعضهم يَحْرِقون الإنسان بعد موته، ويأتون بنسائه فيقتلونهن ويدفنونهن معه [3]!
وكذلك كان الوضع في الصين؛ فكانت فيها ثلاث ديانات هي: ديانة لاتسو [4]، وديانة كونفوشيوس [5]، وديانة بوذا [6]، وقد تحوَّل بوذا مع مرور الوقت من حكيم ومشرِّع وضعيٍّ إلى معبود لبعض أهل الصين على مدار السنين وحتى الآن، وصُنِعَتْ له التماثيل [7].
وأمَّا الهند فقد برزت فيها ثلاث ظواهر رئيسة هي: كثرة المعبودات والآلهة، فهم يعبدون أيَّ شيء من الكواكب إلى المعادن والحيوانات، ولا يزالون حتى اليوم يعبدون البقر، كما ظهرت لديهم الشهوة الجنسيَّة الجامحة، وكذلك النظام الطبقي الجائر، فقد قسموا المجتمع أربع طبقات: طبقة البراهمة وهم الكهنة والحكام، وطبقة شترى وهم رجال الحرب، وطبقة ويش وهم التجار والزرَّاع، وطبقة شودر وهم المنبوذون الذين هم أحطُّ من البهائم وأذلُّ من الكلاب، ويصرِّح القانون بأنه من سعادة شودر أن يقوموا بخدمة البراهمة دون أجر. كما كان من صنيعهم أنهم يَحْرِقُون الزوجة مع زوجها عندما يموت ويدفنونها معه، وإلاَّ فستبقى أَمَةً في البيت لتُصْبِحَ عُرْضَةً للإهانات والتجريح كلَّ يوم إلى أن تموت [8] .
أما اليهود فكانوا متركِّزين بالشَّام في ذلك الوقت، ولم يكن هناك أحد من الناس يحبُّ معاشرتهم؛ فهم في لحظات الضعف يُبْدُونَ الخنوع والنفاق والوقيعة والكذب، وفي لحظات القوَّة يُبْدُونَ التَّجَبُّر والظلم والوحشيَّة والربِّا، وكانوا على عداء دائم مع النصارى منذ زعموا أنهم قتلوا المسيح u، وكان تواجدهم في عهد رسول الله في شمال المدينة، وكانوا مُمْسِكِينَ بتلابيب التجارة وخاصَّة تجارة السلاح، وكانوا حريصين على نشر الخلاف بين القبائل، ولم يتجمَّعوا مع غيرهم إلا على محاربة المسلمين فيما بعد [9]!
وإذا جئنا إلى مصر؛ فقد كانت خاضعة للاحتلال الروماني الذي حَوَّلهَا إلى مخزنِ غلالٍ يَمُدُّ الإمبراطوريَّة الرومانيَّة بالغذاء، وقد فرض على المصريين ضرائب كثيرة، وعانت مصر في عهدهم تخلُّفًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا وعلميًّا كبيرًا، بل كان الرومان يعذِّبون مَن يختلف عنهم من المصريين في المعتَقَد الديني المذهبي، وإن كان الجميع تحت مِظَلَّة النصرانيَّة الأرثوذكسيَّة [10].
وكذلك كان الوضع في الحبشة (أثيوبيا)، والتي كانت تَدِينُ بالنصرانيَّة المحرَّفة [11]، بينما كانت حياتهم بُدَائِيَّة إلى حدٍّ كبير، رغم وجود قوَّة وجيش وسلاح، وفي عهد رسول الله r حكمهم "أصحمة" النجاشي، الذي كان عادلاً لا يُظْلَم عنده أحد.
أما العرب الذين بُعث فيهم رسول الله r فقد كان لديهم العديد من الأوثان والأصنام التي عبدوها من دون الله، وكان لكل بيت صنم ولكل قبيلة إله، كما ظهر عندهم الكثير من العادات الأخلاقيَّة السيِّئة، كشُرْبِ الخمر، ولعب الميسر، والربا، وتَفَشَّى الزنا بينهم تَفَشِّيًا كبيرًا، كما كان لديهم عادة بشعة هي "وأد البنات"، وكثرت بينهم أيضًا الحروب والنزاعات والإغارات، والتي سجَّل التاريخ منها حربي داحس والغبراء، والبسوس [12].
وعلى هذا الوضع كان حال العالم وحال جزيرة العرب قبل بَعثة النبي r، ولم يكن على الحقِّ إلا أفرادٌ قلائل جدًّا، مثل زيد بن عمرو بن نُفَيْل والد الصحابي سعيد بن زيد t، وكان حنيفيًّا على ملَّة إبراهيم u، وكذلك ورقة بن نَوْفَلٍ الذي كان قد تَنَصَّر، كما كان هناك قُسُّ بن ساعدة الذي كان يُبَشِّر بمجيء نبيٍّ، وقد أدرك النبيَّ بالفعل، لكنه لم يُدْرِك البعثة [13].
[1] للاستزادة في ذلك انظر مثلاً: أبو الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص42-47.
[2] المصدر السابق ص56–64.
[3] السابق نفسه ص51، 52.
[4] هي ديانة سلبية تدعو للانعزال عن المجتمع.
[5] هي ديانة مادِّيَّة تهتم بالعقل ولا تهتم بالعبادة.
[6] ديانة ذات تعاليم أخلاقيَّة معيَّنة، وتدعو للبعد عن الناس والزهد في الحياة.
[7] أبو الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص64-67.
[8] المصدر السابق ص68 –76.
[9] السابق نفسه ص52-55.
[10] انظر: جوستاف لوبون: حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، الفصل الرابع: "العرب في مصر" ص208، وأبو الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص47-50.
[11] أبو الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص50.
[12] المصدر السابق ص76 -91، والمباركفوري: الرحيق المختوم ص48.
[13] انظر: سيرة ابن هشام 2/50. | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:18 | |
| نزول الوحي
في مكة تحديدًا، ودون أي بقعة أخرى من بقاع الأرض، وبالطبع لحكمة يعلمها الله U [14]، وفي لحظة فارقة وعجيبة في تاريخ البشريَّة، بل لعلَّها أعظم لحظة مرَّت في تاريخ الأرض وإلى يوم القيامة، في هذه اللحظة وفي هذا المكان ينزل الوحي على رسول الله r في غار حراء وهو يتعبد لله U؛ ليكون أرفع شرف، وأفضل مِنَّة، وأنبل تكريم للبشريَّة، حين يفيض الله من رحمته على أهل الأرض، فيُرسل إليهم رسولاً منهم، ويُكرمه بالنبوَّة، ويُنْزِل عليه جبريل بآيات من القرآن الكريم.
وقد كانت البداية لما حبَّب الله U إليه الخلوة؛ فكان r يخلو بربه ويعتكف في رمضان من كل سَنَة، ثم بدأت آثار النبوَّة تتبدَّى له، وكان منها سلام الحجر عليه [15]، كما كان منها وهو صغير حادث شقِّ الصدر، وقد ثبت في كتب السنة [16]، وكان من أهم المقدِّمات التي سبقت الوحي الرؤيا الصادقة؛ فكان رسول الله r لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، حتى مضت على ذلك ستَّة أشهر ثم أتاه جبريل u، وكل ذلك كان إعدادًا وتهيئة لرسول الله r، بل ولأهل مكَّة من قريش وغيرهم، حتى يعلموا بعد ذلك أن هذا الإنسان يُوحَى إليه من عند الله.
وفي ذلك تروي السيدة عائشة رضي الله عنها فتقول: "أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ r مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ؛ فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ- قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: " مَا أَنَا بِقَارِئٍ". قَالَ: " فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ". فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ)". فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ r يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ: " زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي". فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: " لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي". فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتُقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ r خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: " أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟" قَالَ: نَعَمْ؛ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا" [17].
ومن هذه القصة يتَّضح لنا أن رسول الله r بشر؛ فهو يخاف على نفسه فيعود مسرعًا إلى بيته طالبًا الأمان، كما أنه r لم يكن منتظرًا للرسالة أو متوقِّعًا للنبوَّة، كذلك نلمح في موقف السيدة خديجة رضي الله عنها موقف الزوجة الناصحة المُحِبَّة لزوجها الوفيَّة له.
الأمر بالتبليغ
ومن حكمة الله U أن الوحي انقطع بعد ذلك أيامًا عن رسول الله r؛ وذلك -كما يقول ابن حجر- ليَذْهَبَ ما كان r وَجَدَهُ من الرَّوْع، وليحصل له التشوُّف إلى العودة، فلما تقلَّصت ظلال الحَيْرَةِ، وثَبَتَتْ أعلام الحقيقة، وعرف r معرفة اليقين أنه أضحى نبيًّا للَّه الكبير المتعال، وأنَّ ما جاءه سفيرُ الوحي ينقُلُ إليه خبر السماء، كما أنبأه ورقة بن نوفل، وصار تشوُّفه وارتقابه لمجيء الوحي سببًا في ثباته واحتماله عندما يعود، جاءه جبريل للمرة الثانية [18]، وفي ذلك قال r: " بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} إِلَى قَوْلِهِ: { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1-5]" [19]. وكان هذا هو الأمر الواضح بالرسالة وبالتبليغ وبالإنذار؛ فتغيَّرت حالة النبي r من الشكِّ والارتياب وعدم التأكد من أمر النبوَّة إلى حالة من العزيمة والقوَّة والإصرار والنشاط، وهي بداءة الرحلة الطويلة الشاقَّة، رحلة التوحيد والدعوة إلى الله U.
ومن هنا كانت مرحلة الإعداد، أُولى المراحل في بناء الأُمَّة، وقد ظلَّت حتى غزوة بدر الكبرى، أي ما يقرب من خمسة عشر عامًا من عمر الدعوة، وكانت معظمها في مكة المكرمة، وقد بدأ فيها الرسول r في انتقاء الأفراد الصالحين لحمل هذه الأمانة الثقيلة، ونجح في تربيتهم وإعدادهم لهذه المهمة الضخمة، مهمة حمل الدين، ليس إلى أهل مكة أو إلى العرب فقط، بل إلى العالم أجمع.
الدعوة سرًّا
اتَّخذ رسول الله r منهجًا دعويًّا مهمًّا في بداية هذه المرحلة؛ فبدأ بأقرب الناس إليه وألصق الناس إليه، فدعا زوجته خديجة رضي الله عنها، ثم صديقه الصِّدِّيق أبي بكر t، ثم خادمه ومولاه زيد بن حارثة t، ثم ابن عمه علي بن أبي طالب، الذي لم يكن قد تجاوز العاشرة من عمره، ولكلِّ واحدٍ منهم قصَّة تُرْوَى وحديثٌ يُذْكَر.
وقد كان من الحكمة أن تكون الدعوة في بدء أمرها سرِّيَّة؛ وذلك لئلاَّ يُفَاجَأ أهلُ مكة بما هو جديد وغريب على معتقداتهم، وأيضًا حتى لا يُقضى على الدعوة في مهدها، وهو ما حدث في منهج الدعوة طيلة السنوات الثلاث الأولى من بدئها.
هذا، وقد نشط أبو بكر الصديق t للدعوة بإيجابيَّة شديدة منذ أول يوم أعلن فيه إسلامه، حتى أسلم على يديه عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عُبَيْدِ اللَّه، وأبو عُبَيْدَةَ بن الجراح، وهم من العشرة المبشَّرين بالجنة، كما أسلم على يديه أيضًا عثمان بن مظعون، والأرقم بن أبي الأرقم، وأبو سلمة، إضافة إلى أهل بيته، وكذلك غلامه عامر بن فهيرة، والعبد الحبشي بلالُ بنُ رباحٍ الذي اشتراه ثم أعتقه [20].
وكان أهم ما يُمَيِّزُ هذه المرحلةَ السرِّيَّة الحذرُ الأمنيُّ الشديد، وقد بدا ذلك واضحًا في قصَّة إسلام بعض الصحابة، مثل عمرو بن عَبَسَةَ السُّلَمِيّ، وأبي ذَرٍّ الغفاري، وكان من مظاهر السرِّيَّة في ذلك الوقت أيضًا اجتماع الرسول r والصحابة في دار الأرقم بن أبي الأرقم t ثلاث عشرة سنة دون أن يُكْتَشَفَ أمرهم، وقد اعتمد الرسول r في تربية المسلمين في هذه المرحلة على بناء العقيدة الصحيحة، وتعميق القيم الأخلاقيَّة الأصيلة. | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:19 | |
| الجهر بالدعوة
بعد ثلاث سنوات كاملة من الدعوة السرِّيَّة وزيادة عدد المسلمين إلى نحو الستِّين، أَذِن الله U لرسوله r بالجهر بالدعوة، لتبدأ نَقْلَة جديدة في مرحلة الإعداد، وفيها أُمر الرسول r بأن يبدأ بأقربائه ثم بقيَّة الناس، وهنا جمع الرسول r أقربائه وبلغوا خمسة وأربعين رجلاً ليدعوهم، إلا أن عمَّه أبا لهب ابتدره بقوله: "هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك، فتكلَّم ودع الصباة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة"، فسكت الرسول r ولم يتكلم في هذا الجمع.
ثم جمعهم r مرة ثانية وبادرهم بالحديث قائلاً: " الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ، وَأُؤْمِنُ بِهِ وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، ثم قال: إِنَّ الرَّائِدَ لاَ يَكْذِبُ أَهْلَهُ، وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ خَاصَّةً وَإِلَى النَّاسِ عَامَّةً، وَاللَّهِ لَتَمُوتُنَّ كَمَا تَنَامُونَ، وَلَتُبْعَثُنَّ كَمَا تَسْتَيْقِظُونَ، وَلَتُحَاسَبُنَّ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَإِنَّهَا الْجَنَّةُ أَبَدًا أَوِ النَّارُ أَبَدًا". وهنا أعلن عمُّه أبو طالب أنه سيقف بجانبه ناصرًا ومؤيِّدًا إلا أنه لن يترك دين عبد المطلب، بينما كان موقف أبي لهب على العكس تمامًا حيث قال: "هذه والله السوأة، خذوا على يده قبل أن يأخذ غيركم" [21].
ثم نزل الأمر القرآني المباشر: { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ} [الحجر: 94]، فكان ذلك إيذانًا بإعلان الدعوة للناس عامَّة، والإعراض عن المشركين، بمعنى عدم قتالهم وتجنُّب الصدام معهم، فاستجاب رسول الله r مباشرة، وخرج ينادي قبائل قريش جميعًا من على جبل الصفا، ويقول لهم: " أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنْ خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغْيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟" قالوا: نعم؛ ما جرَّبنا عليك إلا صدقًا. فقال r: " فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٌ" .
فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزل قوله تعالى: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] [22].
وعلى الرغم من يقين مشركي مكة من صدق رسول الله r، ومعرفتهم أن ما جاء به هو الحق إلا أنهم لم يؤمنوا، وقد تعدَّدت الموانع في ذلك عندهم، ما بين مَن منعته التقاليد كأبي طالب، ومَن منعه الجبن كأبي لهب، ومن منعته القبلية كأبي جهل، ومن منعه الكبر والعناد، ومن منعه خوفه على ضياع السيادة والحُكم في قومه، وغير ذلك، وهم لم يكتفوا بهذا، بل بدءوا يُخَطِّطون ويُدَبِّرون للكَيْد لرسول الله r وللمسلمين، وسلكوا في ذلك سبلاً شتَّى ووسائل متعدِّدة، اتَّسمت المرحلة الأولى في ذلك بالسلم، ثم أخذت طابع المفاوضات، وانتهت بالإيذاء والتنكيل بالمؤمنين ليردُّوهم عن دينهم، والذي لم يَزد المسلمين إلا إصرارًا على الحقِّ، وصبرًا على الإيذاء، وضربوا في تلك المحنة أروع الآيات في الصبر وَتَحَمُّلِ الأذى في سبيل الله U.
وكان بلال بن رباح t ممَّن تَلَظَّى بسلسلة مضنية من التعذيب على يد أُمَيَّة بن خلف، وعلى نفس الدرب كان ياسر وزوجه سميَّة والدا عمار بن ياسر y، فقد وقعا تحت يدي رأس الكفر أبي جهل لعنه الله، فعذبهما تعذيبًا شديدًا حتى قُتِلا في بيت الله الحرام جَرَّاءَ التعذيب والتنكيل، ومثلهم كان خَبَّابُ بن الأَرَتِّ t، وكان المشركون يَجُرُّونَه من شعره ليضعوه على الفحم الأحمر الملتهب، ثم يضعون الصخرة العظيمة على صدره حتى لا يستطيع أن يقوم، وكذلك السيدة زِنِّيرَة والنَّهْدِيَّة وابنتها وأم عُبَيْسٍ رضي الله عنهن، حتى تحوَّلت مكة إلى سجن كبير تُهان فيه الإنسانيَّة، ويرتع فيه وحوش الكفر.
[14] لعلَّ من هذه الحكمة: أن هذه المنطقة ليس لها تاريخ ثقافي يُذْكَر، اللهم إلا ما تميَّزت به من سحر البيان والذي تجسَّد في نظم الشعر، ولعلَّ في هذا ما فيه من نقاء الرسالة الخاتمة وعدم تلويثها بما كان في البيئات والأمم الأخرى التي سادتها ثقافات متعدِّدة وفلسفات وضعيَّة خاصَّة. وأيضًا: أن هذه المنطقة ليس لها تاريخ عسكري ملموس؛ فلم يكن هناك ما يُعْرَف بالجيوش العربيَّة أو الجيش المنظَّم، بل كانت قبائل متفرِّقة لا تَعْرِفُ إلا حرب الإغارات والسطو، ثم لمَّا أسلموا دانت لهم الأرض، وذلت لهم القوى العظمى آنذاك، وتحوَّلوا من رعاة للغنم إلى قادة للأمم، وهو أمر معجز، ودليل دامغ على أنهم مؤيَّدون بتأييد الله U، وهو عكس ما لو نزلت الرسالة في بلدٍ له تاريخ عسكري طويل وعظيم ومنظَّم. كما أن لغة الجزيرة العربيَّة هي اللغة العربيَّة وهي أشرف اللغات، وهي لغة أهل الجنة، وبها نزل القرآن الكريم. وأيضًا فإن العرب وأهل مكة كانوا يؤمنون بالله، وإن اتخذوا الأصنام و الأوثان شفعاء، ولذلك فهم أقرب إلى الإسلام من غيرهم ممن جحدوا الألوهية وعبدوا غير الله. وهذا فضلاً عن صفات العرب وأخلاقهم التي تساعد على حمل الدعوة ونشر الرسالة، وهي مثل: الصدق، والكرم، والشجاعة، والصبر، وقوَّة التحمل.
[15] يقول النبي r: "إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبِعَثَ إِنِّي لأَعْرِفُهُ الآن". انظر: مسلم: كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي r وتسليم الحجر عليه قبل النبوة (2277).
[16] وهو أن النبي قد شُقَّ صدره وهو غلام وأُخْرِجَ قلبه واستُخْرِجت علقة من قلبه، وقيل: هذا حظُّ الشيطان منك. ثم غسل قلبه في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأَم صدر النبي. رواه مسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله r إلى السموات وفرض الصلوات (162).
[17] البخاري: باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله r (3)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله r (160).
[18] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 1/27.
[19] البخاري: باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله r (4)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله r (161).
[20] الطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/60، وابن كثير: البداية والنهاية 3/39، 40.
[21] انظر: شمس الدين الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد 2/322، 323، وابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/ 585.
[22] البخاري: كتاب التفسير، سورة الشعراء (4492)، عن ابن عباس | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:19 | |
| الهجرة إلى الحبشة
لما اشتدَّ الإيذاء والعذاب بالمسلمين جاءت الخطوة التكتيكيَّة من رسول الله r في محاولة منه للأخذ بأسباب الحفاظ على الدعوة الإسلاميَّة التي غدت مهدَّدة من قريش، وذلك أنه مأمور بالكفِّ والإعراض عن المشركين، فلم يكن الحلُّ إلا أن تهاجر تلك الطائفة المؤمنة بدين الله U إلى مكان آخر، فكانت الهجرة الأولى إلى الحبشة؛ حيث قال رسول الله r لأصحابه: " لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى الْحَبَشَةِ؛ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لاَ يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ" [23] . وقد أمر r أربعة عشر مؤمنًا بالهجرة، وكان على رأسهم عثمان بن عفان t وزوجته رقية بنت رسول الله r، وجعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله r، وكان ذلك في السنة الخامسة من البعثة.
وعلى الرغم من خروج المسلمين خفية وأخذهم للحيطة والحذر، إلاَّ أن قريشًا كشفت أمرهم وخرجت في أثرهم، فلم يكن من المسلمين إلا أن ابتهلوا إلى الله U الذي أنجاهم بسفينتين كانتا على الميناء، فانطلقوا آمنين إلى أرض الحبشة وأقاموا فيها في أحسن جوار.
وفي نفس هذه السنة التي تمَّت فيها الهجرة الأولى للحبشة خرج النبي r إلى الحرم، وكان هناك جمعٌ كبيرٌ من قريش فيه سادتها وكبراؤها، فقام فيهم وأخذ يتلو سورة النجم بغتة، فلما باغتهم بتلاوة هذه السورة، وقرع آذانهم بهذا الكلام الإلهي الخلاَّب، تفانَوْا عمَّا هم فيه، وبقي كلُّ واحد مصغيًا إليه، لا يخطِر بباله شيء سواه، حتى إذا تلا في خواتيم هذه السورة قوله تعالى: { فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62]، ثم سجد لم يتمالك أحدٌ نفسه حتى خرَّ ساجدًا! وسُقِطَ في أيديهم، وقد توالى عليهم اللوم والعتاب من كل جانب ممن لم يحضر هذا المشهد من المشركين، وعند ذلك كذبوا على رسول اللَّه r، وأشاعوا أنه قرأ آيات معيَّنة تُعَظِّم من شأن اللاَّت والعزَّى، ولذلك لمَّا جاءت آية السجود سجدوا تعظيمًا لآلهتهم.
أما مهاجرو الحبشة، فإن هذا الخبر قد بلغهم في صورة أخرى، مفادها أن قريشًا أسلمت، فرجعوا إلى مكة في نفس السنة التي هاجروا فيها، ولما وصلوا قبل مكة وعرفوا حقيقة الأمر رجع منهم مَن رجع إلى الحبشة، ولم يدخل في مكة من سائرهم أحد إلا مستخفيًا، أو في جوار رجل من قريش.
على أن المشركين عادوا إلى سابق عهدهم من إيذاء المسلمين، وخاصَّة بعد ما حدث من سجودهم في الكعبة، وما بلغهم من استقبال النجاشي الحافل للمهاجرين، ذلك الأمر الذي رفع معنويَّات المؤمنين وأغاظ المشركين، فأخذ رسول الله r قرار الهجرة مرَّة ثانية إلى أرض الحبشة، والتي كانت أشقَّ من سابقتها؛ إذ إنَّ قريشًا تيقَّظت لها وقرَّرت إحباطها، بَيْدَ أن المسلمين كانوا أسرع، ويسرَّ اللَّه لهم السفر، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يُدْرَكُوا، وقد بلغ عددهم قرابة المائة من الرجال والنساء [24].
وقد عزَّ على قريش أن يجد المسلمون مأمنًا لهم في الحبشة، فأرسلت رجلين لَبِيبَيْنِ هما عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة إلى النجاشي لإقناعه بأن هؤلاء المسلمين أعداء له قبل أن يكونوا أعداءً لهم، وأرسلت معهما الهدايا الثمينة للنجاشي ولبطارقته، حتى يردوهم.
ولكنَّ النجاشي العادل لم يرضَ إلا بأن يسمع من الطرف الآخر أيضًا، فأرسل إلى المسلمين فتكلَّم نيابة عنهم جعفر بن أبي طالب، فقال: أيها الملك، كنَّا قومًا أهل جاهليَّة، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، ويأكل منا القويُّ الضعيف، فكُنَّا على ذلك، حتى بعث اللَّه إلينا رسولاً منَّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحِّده ونعبده، ونخلع ما كنَّا نعبد -نحن وآباؤنا- من دونه من الحجارة والأوثان، وأَمَرَنَا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفِّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأَمَرَنَا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام -فعدَّد عليه أمور الإسلام- فصدَّقناه، وآمنا به، واتَّبعناه على ما جاءنا به من دين اللَّه، فعدا علينا قومنا، فعذَّبونا وفتنونا عن ديننا، فلمَّا قهرونا وظلمونا وضيَّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك.
ثم قرأ عليه جعفر t صدرًا من سورة مريم فبكى النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلِّمهم إليكما ولا يكادون. فخرجا.
وهنا قال عمرو بن العاص لعبد الله بن أبي ربيعة: والله لآتينَّهم غدًا بما أستأصل به خضراءهم. فلما كان الغد قال للنجاشي: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيمًا. فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن ذلك، فقال له جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبيُّنَا r؛ هو عبد الله ورسوله، وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فأخذ النجاشي عودًا من الأرض، ثم قال: واللَّه ما عدا عيسى ابن مريم ما قُلْتَ هذا العود. ثم قال لحاشيته: ردُّوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، فواللَّه ما أخذ الله منِّي الرشوة حين ردَّ عليَّ مُلْكِي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيَّ فأطيعهم فيه. قالت أم سلمة التي تروي هذه القصة: فخرجا من عنده مقبوحَيْنِ مَرْدُودًا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار [25].
[23] سيرة ابن هشام 1/321، والسهيلي: الروض الأنف 2/89.
[24] انظر: ابن كثير: السيرة النبوية 2/9، وابن القيم: زاد المعاد 3/20، وشمس الدين الصالحي: سبل الهدى والرشاد 2/389.
[25] ابن هشام: السيرة النبوية 1/335، وابن كثير: البداية والنهاية 3/88-94. | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:21 | |
| إعلان الدعوة
بين هجرة الحبشة الأولى والهجرة الثانية حدث في مكة خطبٌ جلل غَيَّرَ الكثير في مسيرة الدعوة الإسلاميَّة، وقد تمثَّل في إسلام حمزة بن عبد المطَّلب عمِّ رسول الله r، الذي كان أكثر الناس عزَّة ومنعة، وأقواهم بأسًا وشكيمة، ليصبح بعد ذلك أسد الله.
ثم إسلام عمر بن الخطاب t، بعده بثلاثة أيَّام فقط، والذي لقَّبه الرسول r بالفاروق؛ إذ فرَّق الله به بين الحقِّ والباطل، وبين مرحلتين من تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة، فمنذ اللحظة الأولى لإسلامه لم يستطع عمر t أن يكتم إيمانه، فتوجَّه لرسول الله r وسأله: ألسنا على الحقِّ؟ قال له رسول الله r: نعم. قال: ففيم الاختفاء؟ فوافقه رسول الله r على الإعلان، ومِن بعدها سيبدأ ظهور الإسلام والمسلمين في مكة، وستؤدَّى الشعائرُ أمام أهل مكة في وضح النهار، وبهذا يكون عمر t هو الذي اخْتُصَّ بدعوة الرسول r: " اللَّهُمَّ أَيِّدِ الإِسْلامَ بِأَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ" [26].
هذا، وبعد إسلام هذين البطلين الجليلين ظهر الإسلام في مكة، وأعلن كثيرٌ من المسلمين إسلامهم، ولم يجد المشركون بُدًّا من استعمال طريقة أخرى بدلاً من التعذيب، فكانت مساومة النبي r ليكفُّوه عن دعوته؛ فقام أحد كبرائهم -وهو عتبة بن ربيعة- إلى رسول الله r فعرض عليه المال والسيادة والمُلْكِ على قريش والعرب كلها، أو أن يحضروا له أمهر الأطباء لمعالجته إن كان ما يقوله بسبب مرض أو مسٍّ من الجنِّ... إلاَّ إن رسول الله r أجابه بكلام الله U، حيث قرأ آياتٍ من سورة فصلت، أُخِذَ بها عتبة وَبَهَرَتْهُ كلَّ الإبهار، فقام من فوره إلى قومه وعيناه زائغتان، حتى دخل على زعماء قريش، ولم يكن الأمر يحتاج إلى كثير ذكاء حتى يعرف الجميع ما حدث، حتى لقد قال بعضهم: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، وحين جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ وبلسان عجيب وفي غاية الصدق، بدأ أبو الوليد عتبة يحكي تجرِبته ويقول: لقد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قطُّ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش: أطيعوني واجعلوها بي، وخلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تُصِبْه العرب فقد كُفِيتُموه بغيركم، وإن يَظهر على العرب فمُلْكُه مُلْكُكُم وعزُّه عزُّكم، وكنتم أسعد الناس به. وفي ذهول تامٍّ ردُّوا عليه، وقالوا: سَحَرَك والله يا أبا الوليد بلسانه. فأجابهم: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم [27].
حصار النبي في شعب أبي طالب
كان أبو طالب عمُّ رسول الله r مراقِبًا للوضع من بعيد، فخشي على ابن أخيه من إيذاء قريش وبطشهم، فقرَّر أن يجمع بني عبد مناف لنصرة رسول الله وحمايته، فوافق الجميع، مسلمهم وكافرهم؛ حمية للجوار العربي، الأمر الذي أصبحت معه مكة على أعتاب أزمة خطيرة، وأصبحت المواجهة بين بني عبد مناف وبين بقيَّة قريش حتميَّة لا مناصَ منها، وحينئذٍ أخذت قريش قرارًا خطيرًا هو المقاطعة وتفعيل سياسة الحصار الاقتصادي لبني عبد مناف، والتجويع الجماعي لهم، كفارًا ومسلمين، واتفقوا على ألا يناكحوهم، ولا يزوِّجوهم ولا يتزوَّجوا منهم، ولا يُبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلِّموهم، وأن لا يقبلوا من بني هاشم وبني المطَّلب صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يُسْلموا رسول الله r لهم للقتل!!
وهنا بدأت حِقبة جديدة من المعاناة والألم، حيث حُوصِر المسلمون والمشركون من بني عبد مناف ومعهم أبو طالب في "شِعْبِ أبي طالب"، وقد بلغ الجهد بهم حتى إنه كانت تُسمع أصوات النساء والصبيان وهم يصرخون من شدَّة الألم والجوع، وحتى اضطروا إلى أكل أوراق الشجر والجلود، وقد ظلَّت تلك المأساة البشريَّة طيلة ثلاثة أعوام كاملة، حتى جاء شهر المحرم من السنة العاشرة من البعثة، وشاء الله U أن يُفكَّ الحصار البشع عن بني هاشم وبني عبد المطَّلب، وكان ذلك على يد ثُلَّة من مشركي قريش جمعتهم النخوة والحميَّة القبليَّة، ثم بفضل آية قاهرة من آيات الله U، تمثَّلت في الأَرَضَة التي أكلت جميع ما في الصحيفة التي اتَّفقوا عليها، من جَوْر وقطيعة وظلم، إلا ذكر اللَّه U!!
وبعد هذا الحصار وفي هذه السنة -العاشرة من البعثة- مرض أبو طالب عمُّ رسول الله r، وأحسَّ الجميع بأنه مرضُ الموت، وخافت قريش أن تُعاب بعد موته إن هي آذت رسول الله r، فكوَّنت وفدًا من زعمائها إلى أبي طالب يعرضون عليه أن يكفُّوا عن إيذاء رسول الله ويكفَّ هو عن إيذاء آلهتهم، فما كان من رسول الله r إلا أن قال: " يَا عَمُّ، أَفَلا تَدْعُوهُمْ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ؟" قال أبو طالب: وإلام تدعوهم؟ قال: " أَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَيَمْلِكُونَ بِهَا الْعَجَمَ". فقال أبو جهل بلهفة: ما هي؟ ثم أقسم: وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها. فقال رسول الله r في ثبات: " تَقُولُونَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهَ. وَتَخْلَعُونَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ". فصفَّقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟ إن أمرك لعجب! ثم إنَّ بعضهم قال لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئًا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه. ثم تفرَّقوا [28].
[26] الطبراني: المعجم الكبير (11657)، ورواه الترمذي عن نافع عن ابن عمر بلفظ: "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ". قال: وكان أحبهما إليه عمر. (3681). وصححه الألباني انظر: مشكاة المصابيح (6036).
[27] ابن هشام: السيرة النبوية 1/294، وابن كثير: السيرة النبوية 1/505، والسهيلي: الروض الأنف 2/45، 46.
[28] انظر: ابن هشام: السيرة النبوية 1/417.
عام الحزن
حدثت للمسلمين مصيبتان كبيرتان في هذه السنة، الأولى هي موت أبي طالب، عمِّ رسول الله r، والسند الاجتماعي المهمّ له، والثانية وفاة خديجة رضي الله عنها، زوج رسول الله r والسند العاطفي والقلبي له!!
وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيَّام معدودة، فازدادت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله r، وزاد عليه ما كان مِن تجرُّؤ المشركين عليه، حيث كاشفوه بالنكال والأذى بعد موت عمِّه أبي طالب، فازداد غمًّا على غمٍّ حتى يئس منهم، وخرج إلى الطائف؛ رجاء أن يستجيبوا لدعوته أو يُئووه وينصروه على قومه، فلم يرَ ناصرًا ولم يرَ مَن يُئوي، بل تطاولوا عليه r وأَغْرَوْا به سفهاءهم الذين رَمَوْهُ بالحجارة هو ومولاه زيد بن حارثة، حتى دَمِيَتْ قدمه الشريفة، وشُجَّ رأس زيد، ولم يزل به السفهاء حتى ألجئُوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، فلما التجأ إليه رجعوا عنه، وأتى رسول اللَّه r إلى حَبَلَة [29] من عنب فجلس تحت ظلِّها إلى جِدَار، فلمَّا جلس إليه واطمأنَّ، ودعا بالدعاء المشهور الذي يدلُّ على امتلاء قلبه كآبة وحزنًا ممَّا لقي من الشدَّة، وأسفًا على أنه لم يؤمن به أحد.
ولما رآه ابنا ربيعة تحرَّكت له رحمهما، فدَعَوْا غلامًا لهما نصرانيًّا يقال له: عَدَّاس. قالا له: خُذْ قِطْفًا من هذا العنب، واذهب به إلى هذا الرجل. فلمَّا وضعه بين يدي رسول اللَّه r مدَّ يده إليه قائلاً: " بِاسْمِ اللَّهِ". ثم أكل، فقال عَدَّاس: إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فقال له رسول اللَّه r: " مِنْ أَيِّ الْبِلادِ أَنْتَ؟ وَمَا دِينُكَ؟" قال: أنا نصراني، من أهل نينوى. فقال رسول اللَّه r: " مِنْ قَرْيَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى؟". قال له: وما يُدريك ما يونس بن متَّى؟ قال رسول اللَّه r: " ذَاكَ أَخِي، كَانَ نَبِيًّا وَأَنَا نَبِيٌّ". فأكبَّ عَدَّاس على رأس رسول اللَّه r ويديه ورجليه يُقَبِّلُها. فقال ابنا ربيعة أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك. فلمَّا جاء عَدَّاس قالا له: ويحك ما هذا؟ قال: يا سيدي، ما في الأرض شيء خير من هذا الرجل، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي. قالا له: ويحك يا عَدَّاس! لا يصرفنَّك عن دينك، فإن دينك خير من دينه [30].
ثم رجع رسول اللَّه r في طريق مكة بعد خروجه من الحائط كئيبًا حزينًا، وقد بعث اللَّه إليه جبريل ومعه ملك الجبال يستأمره أن يُطْبِق الأخشبين على أهل مكة، فقال النبي r: " بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا" [31]. ودخل رسول الله rمكة في إجارة "المُطْعِمِ بن عديٍّ"، الذي قَبِلَ إجارته وحَذَّرَ قريشًا من أن يُؤذوا رسول الله r ما دام في جواره.
وفي مكة لم يتوقَّف رسول الله r عن الدعوة، وقد انتهز فرصة موسم الحج ليدعو القبائل والوفود إلى الإسلام ونصرة هذا الدين، فكان يأتيهم قبيلة قبيلة يعرض عليهم الإسلام ويدعوهم إليه، ولم يستجب أحد منهم في هذه السنة، ومن هذه القبائل: بنو كلب، وبنو حنيفة الذين لم يكن أحد من العرب أقبح ردًّا على رسول الله r منهم.
وفي خِضَمِّ هذه الأحداث التي اشتدَّ وقعها على رسول الله r، تُوُفِّيَتْ زوجه خديجة وعمُّه أبو طالب في السنة العاشرة من البَعْثة، وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان فازدادت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله r، ففكَّر رسول الله r أن يخرج بدعوته من مكة، فاتَّجه إلى أكبر القبائل بعد قريش وهي قبيلة ثقيف بالطائف؛ رجاء أن يستجيبوا لدعوته أو يُئْوُوه وينصروه على قومه، فلم يرَ ناصرًا ولم يرَ مَن يُئوي، وقد قال له أحدهم: أما وجد الله أحدًا يرسله غيرك؟ وقال آخر: والله لا أكلمك أبدًا... لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطرًا من أن أردَّ عليك الكلام، ولئن كنتَ تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلِّمَك! | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:22 | |
| وهنا قام رسول الله r من عندهم وقد يئس من خيرهم، وقال لهم: " إِذْ قَدْ فَعَلْتُمْ فَاكْتُمُوا عَنِّي". إلاَّ إنهم لم يفعلوا، بل تطاولوا عليه r وأَغْرَوْا به سفهاءهم الذين رَمَوْهُ بالحجارة هو ومولاه زيد بن حارثة، حتى دَمِيَتْ قدمه الشريفة، وشُجَّ رأس زيد، ولم يزل به السفهاء حتى ألجئُوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وهناك التجأ إلى شجرة وأخذ يدعو بالدعاء المشهور: " اللَّهُمَّ إلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟ أَمْ إلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلا أُبَالِي ..." [32].
وفي العام التالي وهو العام الحادي عشر من البعثة كان قد أسلم على يدي رسول الله r من خارج مكة أربعة من الرجال: سويد بن صامت من قبيلة الأوس بيثرب وكان شاعرًا، وإياس بن معاذ وكان صغيرًا في السن بين الثانية عشرة والثالثة عشرة [33]، وكان إسلام الاثنين الآخَرَيْنِ فتحًا على المسلمين؛ إذ جاء كل واحد منهما بقبيلته بعد ذلك مسلمة، الأول هو أبو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ t وقبيلته هي غِفَار، والتي قال عنها النبي r: " غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا" [34]. والثاني هو الطفيل بن عمرو الدَّوْسِيُّ t، وكان سيد قبيلته دَوْسٍ من قبائل اليمن، وقد جاء إلى الرسول r في المدينة بسبعين أو ثمانين بيتًا من دَوْسٍ، كلُّ بيت كان يضمُّ عددًا كبيرًا [35].
[29] هي شجرة العنب. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة جبل 11/134.
[30] الطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/81، وابن كثير: البداية والنهاية 3/167.
[31] البخاري: كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى (3059).
[32] السهيلي: الروض الأنف 2/231، وابن هشام: السيرة النبوية 1/420.
[33] ابن هشام: السيرة النبوية 1/427، 428.
[34] البخاري: كتاب المناقب، باب ذكر أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع (3322).
[35] ابن هشام: السيرة النبوية 1/382-385. | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:22 | |
| الإسراء والمعراج
منَّ الله علي رسوله r برحلة الإسراء والمعراج [36] مواساة له r، ولتمسح عنه الأحزان، وتنقله r إلى عالم أرحب وأُفق أقدس وأطهر، إلى حيث سِدْرَة المنتهى، والقُرْب من عرش الرحمن, ولتعدُّه r إعدادًا خاصًّا لمرحلة أكبر وأعظم؛ وهي مرحلة إقامة الدولة الإسلاميَّة العالميَّة التي تنشر الهدى والحقَّ للعالمين U [37].
وقد كان من حكمته r إزاء ما كان يلقى من أهل مكة من التكذيب والصدِّ عن سبيل الله أنه كان يخرج إلى القبائل في ظلام الليل، حتى لا يَحُولَ بينه وبينهم أحدٌ من أهل مكة المشركين، وقد خرج ليلة ومعه أبو بكر وعلي فمرَّ على منازل ذهل وشيبان بن ثعلبة وكلَّمهم في الإسلام، ودارت بين أبي بكر وبين رجل من ذهل أسئلة وردود طريفة، وأجاب بنو شيبان بأرجى الأجوبة، غير أنهم توقَّفوا في قَبُولِ الإسلام.
ثم مرَّ رسول الله r بعَقَبَة مِنًى، فرأى ستَّة من شباب يثرب، كلهم من الخزرج، وهم: أسعد بن زرارة، وعون بن الحارث بن رفاعة، ورافع بن مالك بن العجلان، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابي، وجابر بن عبد اللَّه بن رئاب، وكان أهل يثرب يسمعون من حلفائهم من يهود المدينة: أن نبيًّا من الأنبياء مبعوث في هذا الزمان سيخرج فنتَّبعه، ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلمَّا لحقهم رسول الله r قال لهم: " مَنْ أَنْتُمْ؟" قالوا: نفر من الخزرج. قال: " مِنْ مَوَالِي الْيَهُودِ؟" أي حلفائهم، قالوا: نعم. قال: " أَفَلا تَجْلِسُونَ أُكَلِّمكُمْ؟" قالوا: بلى. فجلسوا معه، فشرح لهم حقيقة الإسلام ودعوته، ودعاهم إلى الله U، وتلا عليهم القرآن. فقال بعضهم لبعض: تعلمون واللَّه يا قوم، إنه للنَّبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنَّكم إليه. فأَسْرَعُوا إلى إجابة دعوته وأسلموا، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشرِّ ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك [38].
[36]هناك اختلاف بيِّن في زمن الإسراء والمعراج، فقيل: قبل الهجرة بسنة. وهو قول ابن سعد (الطبقات 1/ 214) وغيره، وبه جزم النووي (شرح صحيح مسلم 2/ 209)، كما ورد عند ابن سعد أنه كان في رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرًا، وحكى ابن عبد البر أنه كان في رجب، وجزم به النووي، وحكى ابن الأثير أنه كان قبل الهجرة بثلاث سنين (الكامل 2/ 33)، وقيل غير ذلك. انظر محمد الأمين بن محمد: السيرة النبوية من فتح الباري 1/ 233. ويُعلِّق الشيخ أبو زهرة فيقول: "وننتهي من هذا بأن علماء السيرة النبوية مختلفون في تعيين اليوم الذي كان فيه الإسراء، ولكن الواقعة ثابتة، وقد اتفقوا على أنها كانت بعد ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وردِّهم له الردَّ المنكَر، وأن كونها في ليلة السابع والعشرين من رجب ثبتت بخبر لم يصح سنده في نظر الحافظ المحدث ابن كثير...". انظر رزق هيبة: الإسراء والمعراج وأثرهما في تثبيت العقيدة ص91.
[37] الطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/80.
[38] الطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/86، وابن كثير: البداية والنهاية 3/181، 182.
بيعة العقبة الأولى
في موسم الحجِّ التالي جاء خمسة رجال من هؤلاء الستَّة، وقد تمكَّن الإيمان من قلوبهم، ومعهم سبعة من المسلمين الجُدُد، والْتَقَوْا مع رسول الله r عند العقبة بمكة، ودارت بينهم مباحثات مهمَّة، كان رسول الله r حريصًا فيها على تأسيس النواة الأولى التي ستقوم على أكتافها دولة الإسلام؛ يقول عبادة بن الصامت t: كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله r على بيعة النساء [39]، على أن لا نُشرك بالله، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفَّيتم فلكم الجنة، وإن غَشَيتم من ذلك شيئًا فأمركم إلى الله U، إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم [40].
أول سفير في الإسلام
تمَّت بيعة العقبة الأولى المباركة، وعاد الأنصار الاثنا عشر إلى يثرب ليستكملوا دعوتهم ونشاطهم هناك، وقد أرسل معهم رسولُ الله r مصعب بن عمير t؛ ليُعَلِّمهم أمور دينهم، وليكون أوَّل سفير في الإسلام، ويقوم هو ومن معه من الأنصار بجهد منظَّم لجمع شمل الأنصار (الأوس والخزرج).
فبدأ مصعب وأسعد بن زرارة الخزرجي رضي الله عنهما التحرُّك لنشر الإسلام في يثرب، فأسلم على يده أُسَيْد بن حُضَيْرٍ وسعد بن معاذ رضي الله عنهما، وهما سيِّدا بني عبد الأشهل من قبيلة الأوس، والذي بإسلامهما لم يَبْقَ في بني عبد الأشهل بيتٌ إلا ودخله الإسلام، ثم لم تبقَ بعد ذلك -بفضل نشاطهم في الدعوة- دار من دور يثرب إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، ثم عاد مصعب بن عمير t قبل موسم الحجِّ في العام الثالث عشر من النبوَّة إلى مكة ليخبر الرسول r بإيمان الأنصار، ويوضِّح له منعة المدينة (يثرب) ومنعة رجالها، وقوَّة بأسها [41].
وحين جاء موسم الحجِّ في العام الثالث عشر من الْبَعثة حضر لأداء مناسك الحجِّ من أهل يثرب ثلاثة وسبعون رجلاً من المسلمين وامرأتان، جاءوا ضمن حُجَّاج قومهم من المشركين، وقد تساءل هؤلاء المسلمون فيما بينهم، وهم لم يزالوا في يثرب أو كانوا في الطريق: حتى متى نترك رسول اللَّه r يُطرد في جبال مكة ويخاف؟! بما يدلُّ على الحمية العظيمة والثبات العجيب للأنصار، وهو ما سنراه في بيعة العقبة الثانية وبعد ذلك [42].
[39] عُرِفَتْ بذلك لأنه لم يُفرض فيها حرب ولا جهاد.
[40] الطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/88.
[41] انظر: ابن هشام: السيرة النبوية 1/435-439، وابن كثير: السيرة النبوية 2/181-184.
[42] صحيح ابن حبان: كتاب التاريخ، ذكر وصف بيعة الأنصار رسول الله r ليلة العقبة بمنى (6380)، وابن كثير: البداية والنهاية 3/194 | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:23 | |
| بيعة العقبة الثانية
لما قَدِمَ هذا الوفد مكة جَرَتْ بينهم وبين النبي r اتِّصالات سرِّيَّة أدَّت إلى الاتِّفاق على أن يجتمعوا في أوسط أيام التشريق عند العقبة؛ وذلك ليُضَيَّق على مشركي مكة فرصة تتبُّع وفد الأنصار، وأيضًا أن يتمَّ هذا الاجتماع في سرِّيَّة تامَّة في ظلام الليل؛ حيث لا يراهم أحد، وقد تمَّ اللقاء المَهِيب عند العقبة، والتي عُرِفَتْ ببيعة العقبة الثانية أو الكبرى، والذي كان من نتائجها أن تغيَّرت خريطة العالم بعد ذلك وقامت للإسلام دولة.
التقى رسول الله r بالأنصار في العقبة، وبدأ العباس t الكلام، وكان ما زال مشركًا إلا أنه أحبَّ أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثَّق له؛ فَبَيَّنَ للأنصار مكانة رسول الله r في بني هاشم، ومكانة بني هاشم بمكة، وأنه لا حاجة له بهم إذا لم يكونوا قادرين على نصرته، فلم يكن من الأنصار إلا أن قالوا في أدب: قد سمعنا ما قُلْتَ، فتكلَّم يا رسول الله، فخذْ لنفسك ولربِّك ما أحببت. وهنا بدأ رسول الله r يضع بنود البيعة فقال: " تُبَايِعُونَنِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ تَقُومُوا فِي اللَّهِ لاَ تَأْخُذُكُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ إِلَيْكُمْ، وَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ" [43].
ويُلاحَظ هنا تلك المفارقة بين ما طلبه رسول الله r من الأنصار في بيعة العقبة الأولى وما طلبه منهم هنا في بيعة العقبة الثانية؛ ففي الأولى كان الرسول r يبني فردًا مسلمًا مؤمنًا، يتَّصف بعقيدة سليمة وبأخلاق حميدة، ولكنه هنا يبني أُمَّة؛ فهو يحتاج لما هو أعلى وأرقى، يحتاج لمكابدة وصبر وقوَّة تحمُّل، ويحتاج لبذل وكفاح ودماء.
وقد ردَّ عليه وفد الأنصار: والذي بعثك بالحق نبيًّا، لنمنعنَّك مما نمنع منه أُزُرَنَا [44]، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب، وأبناء الحلقة [45]، ورثناها كابرًا عن كابر. وقد أراد أحدُ أفراد الوفد أن يستوضح من أمر البيعة فيما يتعلَّق بعَلاقتهم باليهود، فقام وقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين اليهود في المدينة حبالاً وإنَّا قاطعوها، فهل عسيتَ إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتَدَعَنَا؟ فما كان من رسول الله r إلا أن تبسَّم ثم قال: " بَلِ الدَّمَ الدَّمَ، وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ" [46].
وهنا ولمَّا قام الأنصار يبايعون، قام العباس بن عبادة الخزرجي، وهو من رجال بيعة العقبة الأولى، يخاطب قومه وكأنه ينبِّههم إلى خطورة ما هم مُقدِمُون عليه، فقال: هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم. فقال العباس بن عبادة موضِّحًا لهم: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نُهِكَت أموالكم مصيبةً، وأشرافُكم قتلاً أسلمتموه، فمِن الآن، فهو -والله- إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نَهْكَة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو -والله- خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال: " الْجَنَّةُ". فقالوا جميعًا: ابسط يدك يا رسول الله [47].
وهنا أيضًا قام أسعد بن زرارة t وأمسك يد رسول الله r يبعدها عن أيدي الأنصار، ثم قال محذِّرًا: رويدًا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافَّة، وقتل خياركم، وأنْ تَعَضَّكم السيوف، فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله. فقالت الأنصار: يا أسعد، أمط عنا يدك، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها.
يقول جابر بن عبد الله راوي القصة: فقمنا إليه رجلاً رجلاً، فأخذ علينا البيعة يعطينا بذلك الجنة، حتى النساء -المرأتان اللتان شاركتا في هذه البيعة- بايعتا بيعة الحرب، وكانت مبايعتهما مشافهة بالكلام وليس باليد، ثم قال رسول الله r للأنصار: " أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمُ اثَنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا؛ لِيَكُونُوا عَلَى قَوْمِكُمِ بِمَا فِيهِمْ". فانتخب الأنصار نوَّابهم بنسبة التمثيل في البيعة، فكان الخزرج يمثِّلون خمسة وسبعين في المائة من المبايعين، وكذلك كان نوَّابهم يمثِّلون خمسة وسبعين بالمائة من النواب، وقد قال لهم رسول الله r: " أَنْتُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ بِمَا فِيهِمْ كُفَلاَءُ كَكَفَالَةِ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، وَأَنَا كَفِيلٌ عَلَى قَوْمِي" [48].
وعلى الرغم أن رسول الله r ومن معه من المؤمنين قد أخذوا كافَّة الاحتياطات لتأمين مكان البيعة، ونجاحهم بالفعل في الاختفاء عن أعين المشركين، إلا أن إرادة الله شاءت أن يكشف الشيطان لأهل مكة هذا الأمر، فاجتمع زعماء قريش، وكوَّنُوا وفدًا، وذهبوا يخاطبون رئاسة الوفد اليثربي والمتمثِّلة في عبد الله بن أُبيِّ بْنِ سلولَ المشرك، الذي كان لا يدري شيئًا عن أمر البيعة، فقالوا: "يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حيٍّ من العرب أبغض إلينا من أن تَنْشَبَ الحرب بيننا وبينهم منكم". وهنا هبَّ مشركو يثرب يدافعون عن أنفسهم، فقالوا: نحلف بالله ما كان من شيء، وما علمناه. فاقتنع وفد مشركي مكة وعادوا، ولكنهم قاموا ببعض التحرِّيَّات فعلموا أن الخبر صحيح، فأسرعوا إليهم ليدركوهم، فوجدوا أن الحجيج قد نفروا، فأسرعوا وراءهم فرأوا عن بُعْدٍ سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو -رضي الله عنهما- فطاردوهما، فاستطاع المنذر بن عمرو أن يهرب، فأمسكوا بسعد بن عبادة t سيد الخزرج، فقيَّدوه بالحبال وربطوا يده على عنقه، وجعلوا يضربونه ويجرُّونه ويجذبونه من شعره حتى أعادوه إلى مكة، فجاء المطعِم بن عدي والحارث بن حرب بن أمية فخلَّصاه من أيديهم؛ إذ كان سعد يُجِير لهما قوافلهما المارَّة بالمدينة، وتشاورت الأنصار حين فقدوه أن يكروا إليه، فإذا هو قد طلع عليهم، فوصل القوم جميعًا إلى المدينة، وبدءوا يمهِّدون الوضع هناك لاستقبال الرسول r ليؤسِّسُوا النواة الأولى للعاصمة الأولى في الإسلام: المدينة المنورة [49].
هذا، وبعد أن نجحت بيعة العقبة الثانية، وأصبح الأنصار يمثِّلون عددًا لا بأس به في المدينة المنوَّرة، وَقَبِلوا أن يستقبلوا رسول الله r ويحموه، صدر الأمر النبوي لجميع المسلمين القادرين على الهجرة أن يهاجروا إلى يثرب، ولم يبدأ هو r في الهجرة إلا بعد أن هاجر الجميع إلى المدينة.
على أن معنى الهجرة هنا لم يكن يعني إلا التضحية بالأموال، وإهدار المصالح، مع الإشعار بالهلكة في أوَّل الطريق أو نهايته، وبأن المهاجر إنما يسير نحو مستقبل مبهم لا يدري ما يتمخض عنه من قلاقل وأحزان فيما بعد | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:24 | |
| [43] أحمد عن جابر بن عبد الله (14496) وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. وابن حبان (6274)، والحاكم (4251) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد جامع لبيعة العقبة ولم يخرجاه.
[44] أي: أنفسنا ونساءنا، والأُزُر جمع إزار، ويكنى بالإِزار عن النفس وعن المرأة. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة أزر 4/16.
[45] الحَلْقَةُ: اسم لجُملة السِّلاح والدُّروع وما أَشبهها. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة حلق10/58.
[46] أحمد عن كعب بن مالك (15836)، وقال شعيب الأرناءوط: حديث قوي وهذا إسناد حسن.
[47] ابن هشام: السيرة النبوية 1/446، والطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/93، وابن كثير: البداية والنهاية 3/198.
[48] ثقات ابن حبان 1/111، وابن هشام: السيرة النبوية 1/446، والطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/93.
[49] مسند أحمد: مسند المكيين، حديث كعب بن مالك الأنصاري رضي الله تعالى عنه (15237)، وثقات ابن حبان 1/112، والطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/94، وابن كثير: البداية والنهاية 3/200. | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:24 | |
| الإذن بالهجرة
بدأ المسلمون يهاجرون، وهم يعرفون كلَّ هذه العواقب، وفي اللحظة نفسها أخذ المشركون يَحُولُون بينهم وبين خروجهم؛ وذلك لما كانوا يحسُّونه من الخطر، فعلى سبيل المثال كان أبو سلمة من أول المهاجرين، فخرج هو وزوجته وابنه، إلا أن أهل زوجه منعوها من الهجرة وأخذوها عندهم، فجاء أقارب زوجها فأخذوا ابنها سلمة منها، بعد أن خلعوا ذراعه نتيجة لتنازعهم عليه مع أهل أبي سلمة، فظلَّت أُمُّ سلمة تبكي لفراق زوجها وولدها وحرمانها من الهجرة مدَّة عام كامل، حتى رَقَّ لحالها أحدهم، فردُّوا ابنها إليها، وأذنوا لها أن تلحق بزوجها، فخرجت مع ولدها منفردَيْنِ إلى المدينة، فأخذت النخوة والمروءة عثمان بن طلحة فصحبها إلى المدينة لحراستها وتأمينها، فكانت أوَّل امرأة مهاجرة تدخل المدينة، وعاد عثمان بن طلحة وبقي على شركه، ولم يُسْلِم إلا في العام السابع للهجرة [50] t.
ولما أراد صهيب الهجرة قال له كُفَّار قريش: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغتَ الذي بلغتَ، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلتُ لكم مالي، أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فإني قد جعلت لكم مالي. فبلغ ذلك رسول اللَّه r فقال: " رَبِحَ الْبَيْعُ أَبَا يَحْيَى، رَبِحَ الْبَيْعُ أَبَا يَحْيَى" [51].
وفي حين كان أغلب الصحابة يهاجر سرًّا لِيَتَّقُوا إيذاء قريش، فإن عمر بن الخطاب t خرج وهو متقلِّد سيفه، وفي يده الأخرى عدَّة أسهم، ووقف ينادي عند الكعبة قائلاً: يا معشر قريش، مَن أراد أن تثكَلَهُ أمه، أو يُوتمَّ ولدُه، أو تُرَمَّل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي. فلم يخرج خلفه أحدٌ، بل هاجر معه t عشرون من ضعفاء الصحابة [52].
وعلى كلٍّ فقد خرج الناس أرسالاً يتبع بعضهم بعضًا، حتى لم يبقَ بمكة من المسلمين إلا رسول اللَّه r وأبو بكر وعليٌّ، أقاما بأمره r لهما، وإلا من احتبسه المشركون كرهًا، وقد أعدَّ رسول اللَّه r جهازه ينتظر متى يُؤمر بالخروج [53].
أما قريش فكانت تُفَاجَأُ كلَّ يوم بهجرة رجل أو رجلين أو عائلة، بل إن بعض الفروع من القبائل قد هاجرت بكاملها، وخَلَتْ كثير من ديار مكة من سكانها، وهو الأمر الذي أوقع فيهم سادتها ضجَّة كبيرة، وأخذ القلق يساورهم بشكل لم يسبق له مثيل؛ إذ تجسَّد أمامهم الخطر الحقيقي العظيم الذي أخذ يُهَدِّد كيانهم الوثني والاقتصادي.
ومِن ثَم لم يجد المشركون في مكة بُدًّا من أن يستأصلوا الإسلام بأنجح الوسائل في نظرهم، وذلك بالقضاء على رسول الله r نفسه!!
الاجتماع في دار الندوة
في دار الندوة، المقرِّ الرئيس لاجتماعات قريش، وفي صباح يوم الخميس 26 صفر من السنة الرابعة عشرة للبعثة، تمَّ عقد أخطر اجتماع لكبار الزعماء في مكة، حضره ممثِّلون عن كل القبائل القرشيَّة عدا بني هاشم، وقد بدأت الأفكار الإجراميَّة تُطْرَحُ للمداولة، حتى أشار أحدهم -وهو أبو جهل- بقتل محمد r، والوسيلة في ذلك أن يختاروا من كلِّ قبيلة في مكة شابًّا قويًّا جلدًا، فيحاصروا بيت الرسول r، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرَّق دمه بين القبائل، ولا تجد قبيلته -بنو هاشم- أمامها إلا قَبول الدِيَةِ؛ إذ لا طاقة لهم بحرب كل القبائل.
وعلى هذا خرج زعماء قريش يدبِّرون لأمر المهمَّة التي اتَّفقوا عليها، وكان الله محيطًا بهم وهو خير الماكرين، فنزل جبريل u إلى رسول الله r يخبره بالمؤامرة، ويأمره ألا يبيت في فراشه الليلة، وأن يُزْمِعَ الهجرة بصحبة أبي بكر الصديق t [54].
الهجرة
على الفور توجَّه رسول الله r إلى أبي بكر t ليخبره بأمر الهجرة في تكتُّم شديد، وكانت سعادة الصِّدِّيق t غامرة بأن اختاره رسول الله r رفيقًا له في الهجرة، بل كان على أتمِّ الاستعداد لهذه الخطوة، حتى إنه أعدَّ راحلتين للهجرة، وهيَّأ أهل بيته لهذا الأمر، وادَّخَرَ لذلك من أمواله [55].
وبعد أن عاد الرسول r إلى بيته وجهز نفسه، استقدم عَلِيًّا t لينام مكانه، وأعطاه برده الأخضر ليتغطَّى به، وعرَّفه بالأمانات وأصحابها، ولما جاء وقت الرحيل والذهاب إلى بيت الصِّدِّيق t اكتشف رسول الله r المفاجأة، فقد أحاط المشركون ببيته r إحاطة كاملة، وجاءوا قبل الموعد الذي توقَّعه رسول الله r، وهنا نزل الوحي إلى رسول الله r يطمئنه، ويأمره بالخروج وَسْطَ المشركين دون خوف أو وَجَلٍ، فسوف يأخذ الله U بأبصارهم، وخرج الرسول r في هذه الليلة المباركة، ليلة السابع والعشرين من صفر سنة أربع عشرة من النبوَّة، وهو يقرأ صدر سورة يس، من أوَّلها إلى قوله U: { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس: 9].
وإظهارًا لقدرة الله U في إنجاء الرسول r من أعدائه بعدما حاصروه، وضيَّقوا عليه الخناق كما يظنون، أخذ رسول الله r حفنة من التراب، ونثرها على رءوس المشركين -الذين حاصروا بيته- وهم لا يشعرون [56]، ثم انطلق إلى بيت الصِّدِّيق t لاستكمال تنفيذ الخُطَّة.
وبينما المشركون يحاصرون بيت رسول الله r إذ مرَّ عليهم رجل فأخبرهم أنه r قد خرج، فلم يُصَدِّقوه، ونظروا من ثقب الباب فوجدوا عليًّا نائمًا، فحسبوه رسول الله r فاطمأنُّوا قليلاً، ولمَّا جاء الصباح قام عليُّ بن أبي طالب t من فراشه فرآه القوم فأُسْقِط في أيديهم، فأمسكوا به يجرُّونه إلى البيت الحرام ويضربونه، وحبسوه ساعة، علَّهم يظفرون بخبرهما، ثم أطلقوه، ليمكث t في مكة ثلاثة أيام يَرُدُّ الأمانات إلى أهلها، ثم ينطلق مهاجرًا إلى المدينة المنورة [57].
وكانت خُطَّة رسول الله r في الخروج من مكة أن يبدأ في أوَّل الليل إلى بيت الصِّدِّيق t، ومنه بعد أن تهدأ الحركة في مكة ينتقلان بالراحلتين بالاستعانة بالدليل عبد الله بن أُرَيْقِط للخروج من طريق غير معهود إلى المدينة، ثم يمكثان في غار ثور حتى يفقد الكفار الأمل في العثور عليهما، ويُعيِّنُ عامر بن فُهَيْرَة ليقوم بتغطية آثار الأقدام بِرَعْيِ أغنامه حتى لا يتتبَّعهما أحد، وكذا يقوم عبد الله بن أبي بكر بنقل أخبار قريش وإعداداتها لهم، وتقوم أسماء بنت أبي بكر بمهمَّة حمل الزاد و الطعام لهما، وهي الفترة التي كَمُنَ فيها رسول الله r وأبو بكر في الغار، وهي ثلاث ليالٍ [58].
إن الله معنا
أما قريش فقد جُنَّ جنونها، وأعلنت حالة الطوارئ القصوى في مكة، وذلك حين تأكَّد لديها إفلات رسول الله r ليلة تنفيذ المؤامرة، وعليه فقد قام كبراؤها ببعض المهمَّات العاجلة، فذهب أبو جهل ومعه بعض صناديد قريش إلى بيت أبي بكر وقرعوا بابه، فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر، ولما سألوها عن أبيها وأخبرتهم بأنها لا تدري، رفع أبو جهل يده فلطم خدها لطمة طرح منها قرطها [59]!!
وفي جلسة طارئة مستعجلة قرَّرت قريش استخدام جميع الوسائل التي يُمْكِنُ بها القبضُ على الرجلين، فوضعت المراقبة المسلحة على كل مداخل ومخارج مكة، كما أعلنت عن جائزة كبرى قدرها مائة ناقة، لمن يأتي برسول الله r أو بصاحبه الصِّدِّيق t، حيَّين أو ميِّتين [60].
وعلى هذا فقد جدَّ الفُرسان والمشاة وقصَّاص الأثر في الطلب، وانتشروا في كلِّ الطرق الخارجة من مكة، ولكن من دون جدوى وبغير عائدة.
ورغم الخُطَّة البارعة والمحكمة التي اتبعها رسول الله r والصِّدِّيق t، إلا أن المطارِدون وصلوا إلى باب الغار الذي هما فيه، ولكنَّ الله غالب على أمره، فرجعوا خائبِينَ؛ وفي ذلك يقول أبو بكر t: كنتُ مع النبي r في الغار فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت: يا نبي اللَّه، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: " اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا" [61].
وهكذا لم يرَ المشركون رسول الله r ولا صاحبه، ولما انقضت الأيَّام الثلاثة خرج الرسول r وأبو بكر من الغار، ويشاء الله U أن يلحق بهما أحدُ المشركين وهو سراقة بن مالك، الذي ما إن يصل إليهما حتى تسيخ قدما فرسه في التراب، ولا يستطيع أن يتحرَّك إلا بعد أن يأذن له رسول الله r، بل ويبشِّره رسول الله بسوارَيْ كسرى، ويطلب منه أن يُخَذِّل المشركين عنهم، كما فوجئ r برجل اسمه بُرَيْدَة بن الحُصَيْبِ زعيم قبيلة أسلم، وقد خرج له في سبعين من قومه يريد الإمساك به وبصاحبه ليحصل على المكافأة الكبيرة، ولكن الرسول r وقف يعرض عليه الإسلام في هدوء وسكينة، فوقعت كلمات الرحمن في قلب بريدة وأصحابه فآمنوا جميعًا في لحظة واحدة [62]!!
وبعد هذه المحنة الكبرى وصل الرسول الله r وصاحبه أبو بكر t إلى المدينة المنورة سالمَيْنِ، وذلك في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الرابعة عشرة من النبوة، لتبدأ مرحلة جديدة ومهمَّة في بناء أُمَّة ودولة الإسلام، ولتطوى أيضًا مرحلة العهد المكي بكل أحداثها وآلامها، والتي اهتمَّ فيها رسول الله r بتربية الجانب العقائدي للأُمَّة الإسلاميَّة، وكذا جانب الأخلاق.
وكان في استقبال رسول الله r في المدينة المنورة المهاجرون الذين سبقوه، والأنصار الذين أقاموا استقبالاً حافلاً، فرحين مهلِّلِينَ بوصول رسول الله r إليهم؛ مؤكَّدين بذلك حرصهم الشديد على العمل لدين الله، وأنهم سيفدونه بأنفسهم وأولادهم، وبكلِّ ما يملكون.
وما إن بلغ رسول الله r مشارف المدينة المنورة، واستقرَّت رحاله في قُباء، حتى وضع الأساس لمسجد قُباء، مؤكِّدًا بذلك على دور المسجد المهمِّ في تربية الأُمَّة وترسيخ الإيمان في قلوب المؤمنين، وتوطيد العَلاقات وتقوية الأواصر بين المسلمين [63].
وبعد ذلك بُني لرسول الله r حُجْرَة بسيطة تَفْتَح على المسجد، والتي توسَّعت بعد ذلك، فكان لكلِّ زوجة من زوجات النبي r حجرة، ولم يكن r في هذا الوقت متزوِّجًا إلا من السيدة سودة بنت زمعة رضي الله عنها، وكان عاقدًا على السيدة عائشة رضي الله عنها، ولم يكن قد بنى بها بعدُ.
[50] ابن كثير: السيرة النبوية 2/215، 216.
[51] الحاكم: المستدرك، كتاب معرفة الصحابة y، ذكر مناقب صهيب بن سنان مولى رسول الله r (5700).
[52] شمس الدين الصالحي: سبل الهدى والرشاد 3/225، والسيوطي: تاريخ الخلفاء ص105.
[53] ابن هشام: السيرة النبوية 1/468.
[54] ابن هشام: المصدر السابق 1/482، 483، وابن كثير: البداية والنهاية 3/176.
[55] ابن هشام: المصدر السابق 1/485.
[56] المصدر السابق 1/483.
[57] ابن كثير: البداية والنهاية 7/250.
[58] ابن كثير: السيرة النبوية 2/232وما بعدها.
[59] ابن هشام: السيرة النبوية 1/487.
[60] الطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/104، وابن كثير: البداية والنهاية 3/231.
[61] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب المهاجرين وفضلهم (3453).
[62] الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 3/351، 252.
[63] الطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/116، 117، وابن كثير: البداية والنهاية 3/240. | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:25 | |
| بناء الدولة الإسلامية
يبدأ الرسول r في بناء الدولة، تلك التي لن تحكم المدينة فقط، بل ستكون مؤهَّلة لقيادة الأرض بكاملها، ومن شأنها أن تهزَّ عروشًا ضخمة وممالك عظمى، وما من شكٍّ في أنه مجهود هائل سيبذل، وما من شكٍّ أنَّ ذلك في ظنِّ كثير من النَّاس حلم بعيد المدى، بل مستحيل, لكنه تَحَقَّقَ وبخطواتٍ معروفةٍ وثابتة.
ولأن بناء الدولة الإسلاميَّة الأولى سيظلُّ درسًا تتعلَّم منه الأجيال، فقد شاءت إرادة الله U ألاَّ يكون مجتمع المدينة الذي يدخل إليه رسول الله r مجتمعًا بسيطًا يتكوَّن من الأنصار فقط، ولكنه اشتمل على عناصر عديدة، وبدأ رسول الله r في التعامل معهم كلٍّ حسبما تقتضي ظروف المرحلة والدعوة.
فالمسلمون: يتألَّفون من مهاجرين لا مال لهم ولا زاد، وأنصار هم أهل البلد الأصليون، وهم بِدَوْرِهم ينقسمون إلى قبيلتين هما: الأوس والخزرج، وكان هناك أيضًا المسلمون في الحبشة، والمسلمون المستضعفون في مكة الذين لم يستطيعوا الخروج؛ فكان على رسول الله r أن يتعامل مع هذه الطوائف جميعًا بحكمة ورويَّة، ويضع لكل منها ما يناسبها؛ حتى يقيم دولة متجانسة متآلفة فيما بينها.
والمشركون: طائفة فُرض على رسول الله أن يتعامل معها، وهم مشركو المدينة من قبائل الأوس والخزرج الذين لم يؤمنوا برسول الله r، ومشركو الأعراب من القبائل المحيطة بالمدينة والذين يعيشون على السلب والنهب، ومشركو قريش الذين لم ينسَوْا حرب رسول الله؛ فكان على رسول الله r أيضًا أن يتعامل مع كل طائفة منهم بما يناسبها.
واليهود: أخطر الطوائف التي حرص رسول الله على أن يتعامل معهم بكل حذر؛ إذ هم أهل كتاب ويملكون نفوذًا كبيرًا في المدينة، وكانوا ثلاث قبائل قويَّة: بنو قينقاع، وبنو قريظة، وبنو النضير، وبعد أقلِّ من سنتين ستظهر فئة رابعة، أشدُّ خطرًا من المشركين واليهود ألا وهُمُ المنافقون، فكيف سيتعامل رسول الله r مع هذه الفئات جميعها؟
فأمَّا الأنصار؛ فقد حرص الرسول r على أن يوحِّد بين القبيلتين المتناحرتين، الأوس والخزرج، وكانت قد دارت بينهما حروب عديدة آخرها حرب بُعاث، وكانت قبل الهجرة بعامين فقط، واستطاع r أن يجمعهما على رابطة العقيدة والأخوَّة في الله، معتمدًا في ذلك على صدق إيمانهم، حتى نَسِيَ الأوس والخزرج كلَّ ما كان بينهما من عداوات وحروب، وتوحَّدوا مع رسول الله r لنصرة دين الله، وأصبحوا على قلب رجل واحد، وكانت هذه الخطوة قبل أن يؤاخي رسول الله r بين المهاجرين والأنصار.
وأمَّا المهاجرون، وهم الذين نَجَوْا بأنفسهم إلى المدينة، وتركوا أموالهم ومتاعهم في مكة، وانتقلوا إلى أرض لم يألفوها، وقومٍ لم يعرفوهم، فقد حرص رسول الله r منذ اللحظة الأولى على اتخاذ بعض الإجراءات التي تُقَرِّب بينهم وبين الأنصار وتجمعهم في بوتقة واحدة، كان من أهمها المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وهي عمل من أروع ما يأثره التاريخ، حيث آخى r بينهم على الاقتسام في كل شيء، في المال والزاد وحتى في الميراث، وقد سجَّل التاريخ قِصَصًا خالدة من قصص هذه المؤاخاة، منها ما ورد أن سعد بن الربيع الأنصاري عرض على أخيه المهاجري عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما أن يقتسم معه أملاكه وأمواله، بل وأن يُطَلِّقَ له إحدى زوجتيه حتى يتزوَّجها، غير أن عبد الرحمن t لم يرضَ بذلك، وطلب منه أن يدلَّه على السوق حتى يتاجر [64]!
وهذا المثال يُوَضِّح درجة التضحية والإيثار التي بلغها الأنصار، وحالة الأخوَّة الحقيقيَّة، تلك التي بُنِيَتْ عليها الأمة الإسلاميَّة فقادت العالم كله، كما يبيِّن أن المهاجرين لم يركنوا إلى المؤاخاة وترك العمل، بل أخذوا مواقعهم بسرعة في العمل والتجارة، وبذلك تمَّ تفعيل دورهم في المجتمع ولم يبقوا مجرَّد لاجئِينَ وإنما عناصر فعالة.
وفضلاً عن المؤاخاة، فما أن استقرَّ رسول الله r في المدينة حتى وضع الدستور الإسلامي الذي ينظِّم العَلاقات بين المهاجرين والأنصار، ويوضِّح عَلاقات المسلمين بغيرهم، والتي جعلت المهاجرين يذوبون تمامًا في المجتمع المدني، والتحموا بالأنصار في غضون شهور قليلة، وأصبحوا عنصرًا رئيسًا من البلد، وغَدَوْا يدافعون عن المدينة المنوَّرة وكأنها موطنهم الأصلي، وبهذا استطاع r أن يبني في المدينة مجتمعًا جديدًا، يُعَدُّ أروع وأشرف مجتمع عرفه التاريخ.
وبالنسبة للمشركين فكانوا صنفَيْنِ: مشركو المدينة (مشركو الداخل)، ومشركو قريش (مشركو الخارج). فأما مشركو المدينة فكان أغلبهم على الحياد، ولم تمضِ عليهم مدَّة طويلة حتى أسلموا وحَسُن إسلامهم، وكان فيهم مَن يُبطن العداوة ضدَّ رسول اللَّه r والمسلمين، وكان مضطرًا إلى إظهار الودِّ والصفاء، وعلى رأس هؤلاء عبدُ اللَّه بنُ أُبيِّ بنُ سلولَ، فقد كانت الأوس والخزرج اجتمعوا على سيادته وتتويجه الملك عليهم بعد حرب بُعاث، ولم يكونوا اجتمعوا على سيادة أحد قبله، وقد صادف ذلك مجيء رسول اللَّه r، فانصرف قومُه عنه إلى رسول الله r، فرأى أنه استلبه مُلكه، ومن ثم كان يُبطن شديد العداوة ضدَّه r، ولما رأى الظروف لا تساعده على شركه أظهر الإسلام بعد بدر، ولكن بقي مستبطنًا الكفر، وكان لا يجد مجالاً للمكيدة برسول اللَّه r وبالمسلمين إلا ويأتي بها، وكان أصحابه من الرؤساء الذين حُرِمُوا المناصب المرجوَّة في مُلكه يساهمونه ويدعمونه في تنفيذ خططه، وربما كانوا يتَّخذون بعض الأحداث وضعاف العقول من المسلمين عملاء لهم، لتنفيذ خططهم.
[64] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب إخاء النبي r بين المهاجرين والأنصار (3569)، عن عبد الرحمن بن عوف | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:26 | |
| عقبات في طريق الدعوة
أمَّا مشركو قريش، فكانوا ألدَّ قوَّة ضدَّ الإسلام، وكانوا قد أذاقوا المسلمين في مكة كلَّ أساليب الإرهاب والتنكيل والتهديد وسياسة التجويع والمقاطعة، ثم لمَّا هاجر المسلمون إلى المدينة صادروا أرضهم وديارهم وأموالهم، وحالوا بينهم وبين أزواجهم وذرِّيَّاتهم، بل حَبَسوا وعَذَّبوا مَن قدروا عليه، ثم لم تقتصر على هذا بل تآمروا على الفتك بصاحب الدعوة r والقضاء عليه وعلى دعوته، ولما نجا المسلمون إلى المدينة استغلَّت قريش صدارتها الدنيويَّة وزعامتها الدينيَّة بين أوساط العرب بصفتها ساكنة الحرم ومجاورة بيت اللَّه وسدنته، وقامت بخطوات سريعة لمحاولة هدم الدولة الإسلاميَّة، كان منها:
أوَّلاً: محاولة إثارة الفتنة الطائفيَّة داخل المدينة: حيث سارعت قريش بمراسلة زعيم المشركين في المدينة عبد الله بن أبيِّ بنِ سلولَ، ودعته إلى حرب المسلمين، ولكن الرسول r تعامل مع الموقف بحكمة ورويَّة، فَوَأَدَ الفتنة في مهدها.
ثانيًا: الحرب النفسيَّة ضدَّ المسلمين، وذلك بأن أخذت تُهَدِّد وتُوعد وتقول للمسلمين: "لا يغرَّنَّكم أنكم أفلتمونا إلى يثرب، سنأتيكم فنستأصلكم ونبيد خضراءكم في عقر داركم". وقد أخذ المسلمون هذا التهديد على محمل الجدِّ، فخافوا على رسول الله r أن يأتيه مَن يقتله غدرًا من قريش، فباتوا يسهرون على حراسته r، ولم تتوقَّف تلك الحراسة إلا حينما نزل قوله تعالى: { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، فقال لهم رسول الله r: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، انْصَرِفُوا فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّهُ" [65].
ثالثًا: قطع العَلاقات الدبلوماسية مع المدينة: حيث قرَّرت مكة -وهي التي تمتلك الصدارة الدنيويَّة والزعامة الدينيَّة- أن تمنع أهل المدينة من البيت الحرام، وأن تُعَرْبِدَ في الأرض كما يحلو لها، ويبدو ذلك من الموقف الذي منع فيه أبو جهل سعد بن معاذ t من الطواف بالبيت، وهدَّده بقتله لأنه آوى رسول الله r وأصحابه، وهو الأمر الذي واجهه سعد بأن هدَّد أبا جهل بقطع طريق قريش إلى الشام إذا منعه مما يريد [66].
رابعًا: الحصار الاقتصادي: وكان ذلك لمَّا لم تُفْلِح كل المحاولات السابقة في إضعاف الدولة الإسلاميَّة؛ إذ لجأت قريش إلى التضييق الاقتصادي على المسلمين في المدينة المنورة، وذلك بأن بدأت تؤثِّر على القبائل المجاورة والمحيطة بهم لمنعهم من التعامل مع المسلمين، كما اتَّصلت باليهود داخل المدينة وحرَّضتهم على تضييق الخناق على المسلمين اقتصاديًّا، إلا أن ذلك كله -بفضل الله- لم يؤثِّر على الدولة الإسلاميَّة؛ فقد حرص الرسول r أن تقوم الدولة بالمدينة على سواعد أبنائها، وأن يصبح لديها اكتفاء ذاتي يُمَكِّنُهَا من الاستغناء عن العَلاقات الخارجيَّة إذا دَعت الحاجة إلى ذلك، وفي ذلك فقد اهتمَّ r بإنشاء سوق إسلامي مستقلٍّ عن سوق بني قينقاع الرئيسي الذي كان لليهود في المدينة، كما حفَّز r على الزراعة والصناعة حتى ينمو الاقتصاد الإسلامي ويزدهر، وعلَّم r المسلمين أن الرشوة والسرقة والاختلاس والتهرُّب من الزكاة حرام كله، وبهذا حفظ للدولة مالها وحقوقها، وللشعب ماله وحقوقه، فتحسَّن الاقتصاد وخرج المسلمون من أزمتهم بنجاح.
كانت هذه محاولات قريش للصدِّ عن سبيل الله، ولاستئصال جذور الدولة الإسلاميَّة منذ نشأتها، فعلى الرغم من أن قريشًا كانت قبيلة كبرى ذات مكانة في الجزيرة العربيَّة إلا أن نشأة هذه الدولة الصغرى أَرَّقَهَا وَأَقَضَّ مضجعها، ذلك أنها كانت ترى في تلك الدولة مقوِّمات بناء دولة قويَّة مرهوبة الجانب.
يهود المدينة
يتبقَّى لنا طائفة خطيرة جدًّا لعلَّها أخطر من طائفة المشركين، وهي طائفة اليهود، وكانت في المدينة منهم ثلاث قبائل مشهورة: بنو قينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج، وبنو النضير، وبنو قريظة، وهاتان القبيلتان كانتا حلفاء الأوس، وهذه القبائل هي التي كانت تُثير الحروب بين الأوس والخزرج منذ أمدٍ بعيد وقد ساهمت بأنفسها في حرب بُعاث، كل مع حلفائها.
وقد أقبل المسلمون عليهم بخلفيَّات مستوحاة من الإعداد النفسي الرباني الذي أعدَّه الله تعالى لهم طَوَال العهد المكي في الحديث عن بني إسرائيل وأهل الكتاب، الذين حرص القرآن الكريم على أن يُحِيط المسلمين ببعض أخبارهم، والتي جاءت إيجابيَّة إلى حدٍّ كبير، قبل أن يلقوهم في المدينة، وقد حرص رسول الله r على استمالة قلوب اليهود للإسلام، غير أنه لم يُسلم منهم إلا القليل جدًّا، وكان منهم حِبرهم عبد الله بن سلام t، الذي أسلم وخرج يدعو قومه من اليهود ويقول لهم: "يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، اتَّقُوا اللَّهَ! فَوَالَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَ بِحَقٍّ. قَالُوا: كَذَبْتَ".
واليهود وإن كانوا يُبطنون العداوة للمسلمين، لكن لم يكونوا قد أظهروا أيَّة مقاومة أو خصومة بعدُ، فعقد معهم رسول الله r معاهدةٍ تَرَكَ لهم فيها مطلق الحرِّيَّة في الدين والمال، ولم يتَّجه إلى سياسة العداوة أو الخصام، كما نصَّت المعاهدة على أن بينهم النصر على مَن حارب أهل هذه الصحيفة، وأن ما يجمع بينهم هو البرُّ والنصيحة ونُصرة المظلوم، ونصَّت كذلك على ألا ينصر اليهود قريشًا دون المسلمين، وألاَّ يخرج أحد من اليهود من المدينة إلا بإذن رسول الله r، كما كان من أهمِّ بنودها أنه لو حدث خلاف بين المسلمين واليهود أو شجار, فإن الحكم لله U ولرسوله الكريم r [67].
وبإبرام هذه المعاهدة مع اليهود صارت المدينة وضواحيها وكأنها دولة وفاقية، عاصمتها المدينة ورئيسها -إن جاز هذا التعبير- رسول الله r، وبذلك أصبحت المدينة عاصمة حقيقيَّة للإسلام.
لكن اليهود لم يتوانَوْا في محاربة الإسلام بعد هذه المعاهدة، وذلك بوسائل شتَّى، كان منها إثارة الشبهات حول تعاليم الإسلام، وذلك لزعزعة إيمان المؤمنين، وصرف مَن يفكر في الدخول في الإسلام عنه؛ فتارة يقولون بأن محمدًا ليس هو رسول الله r، وتارة يتواصَوْن على الدخول في الإسلام بعض اليوم وتركه بعد ذلك بزعم أنهم رأوه دينًا باطلاً! وتارة أخرى يزعمون أنهم لن يدخلوا النار إلا أيَّامًا معدودات, وغيرها من الأفكار الخبيثة التي حاولوا أن يُشَكِّكوا بها المسلمين في دينهم، كما كان من وسائلهم في محاربة الإسلام أيضًا: التأثير الاقتصادي؛ فقد ذهبوا إلى الأنصار وأمروهم بعدم الإنفاق على مَنْ عِنْدَ رسولِ الله r كما حكى القرآن عنهم ذلك. ثم كانت محاولتهم أيضًا تفريق الصفِّ المسلم، وقد قام بهذه المحاولة يهودي كبير يُدْعَى شاس بن قيس، حاول أن يُؤَلِّبَ صفوف المسلمين من جديد، ودعا اليهود إلى أن يعملوا على استثارة ما بين الأوس والخزرج من ضغائن وعداوات قديمة، فأرسل أحد غلمان اليهود فجلس مع الأنصار (الأوس والخزرج)، فذكَّرَهم بيوم بُعاث والحروب التي كانت بينهم، فتحرَّكت العصبيَّة القبليَّة عند بعضهم، وتواعدوا على الحرب، ولمَّا سمع رسول الله r بذلك جاء إليهم مسرعًا وقال لهم: " يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهَ اللَّهَ، أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟!" [68] فسارع المسلمون من الأوس والخزرج إلى العودة إلى الله، وعرفوا أنها نزغة من الشيطان، وخمدت الفتنة في مهدها. | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:26 | |
| فيتَّضح هنا مخالفة واضحة من اليهود, وإن كانت لم تصل إلى درجة القتال ومظاهرة الكُفَّار على إخراج المسلمين من ديارهم, وقابله من المسلمين الإعراض والصفح, وكان الرسول r في ذات الوقت يعلم أنَّ قوَّة المسلمين ما زالت في طور الإنشاء مقارنة بقوَّة اليهود، وأنَّ الدخول في معركة مع اليهود في كلِّ صغيرة وكبيرة ليس من مصلحة الأُمَّة الإسلاميَّة في ذلك الوقت, فكان الصبر هو الحلُّ, حتى ولو شَجَّعَ ذلك الصبر اليهود -لحمقهم- على تجاوزات أكبر.
وبعد هذه الأصناف والأحداث التي ذكرناها أصبحت المدينة تتوقَّع هجومًا من قريش, وتعاملاً منهم مع مشركي المدينة, كما تتوقَّع تعاملاً من قريش مع اليهود الذين كذَّبوا ورفضوا الدخول في الإيمان, رغم أنَّ القاعدة التي تحكم حياة المسلمين إلى هذه اللحظة هي: { وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ} [الحجر: 94].
[65] الترمذي (3046)، والحاكم (3221) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وابن سعد: الطبقات الكبرى 1/171، وحسنه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (2489).
[66] البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3433).
[67] ابن هشام: السيرة النبوية 1/504، ومحمد حميد الله: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ص39، 40.
[68] ابن هشام: المصدر السابق 1/555-557، والسهيلي: الروض الأنف 2/415 | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:27 | |
| الإذن بالقتال
في هذه الظروف الخطيرة التي كانت تُهَدِّد كيان المسلمين بالمدينة أنزل اللَّه تعالى الإذن بالقتال للمسلمين، ولم يفرضه عليهم قال تعالى: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]، ولكن كيف يكون القتال والمسلمون في المدينة غير قادرين على مواجهة كُفَّار مكة كلهم، وهم في الوقت ذاته يريدون أن يستردُّوا بعض حقِّهم المسلوب من مشركي مكة، فلم يكن الحلُّ إذن إلا مهاجمة قوافل المشركين التِّجاريَّة المتَّجهة إلى الشام, والتي تتميَّز بقلَّة قوَّاتها العسكريَّة، وتمرُّ بالقرب من المدينة، ومن ثَمَّ يَغْنَمون بعض ما سُلب منهم مِنْ قَبْلُ ظلمًا وعدوانًا.
هذا، وقد بدأ النبي r بالتخطيط العسكري المدروس للبَدء في مهاجمة قوافل التِّجارة القرشيَّة، فعقد أوَّلاً معاهدات جوار ودفاع مشترك مع القبائل المجاورة، ليضمن تحييد جانبهم أثناء هجومه على قوافل قريش, وليطمئنَّ إلى أنه لن يُضْرَبَ من ظهره أثناء حربه مع قريش، ثم قام رسول الله r بتكوين السرايا التي ستتجه لمهاجمة قوافل قريش، والتي حرص على أن تكون من المهاجرين؛ وذلك لأنهم هم الذين ظُلِمُوا مِن قِبَلِ قريش، كما أنَّ لهم دراية بكيفيَّة محاربة قومهم من المشركين.
وبالنسبة لهذه السرايا والغزوات فكانت كما يلي:
1- سرية سيف البحر: في رمضان سنة 1 هجرية بقيادة حمزة بن عبد المطَّلب t [69].
2- سرية رابغ: في شوال سنة 1 هجرية بقيادة عبيدة بن الحارث بن عبد المطَّلب t [70].
3- سرية الخرَّار: في ذي القعدة سنة 1 هجرية بقيادة سعد بن أبي وقاص t [71].
4- غزوة الأبواء أو ودَّان: في صفر 2 هجرية بقيادة رسول الله r [72].
5- غزوة بواط: في ربيع الأوَّل سنة 2 هجرية بقيادة رسول الله r [73].
6- غزوة سَفَوَان: في ربيع الأوَّل أيضًا سنة 2 هجرية بقيادة رسول الله r [74].
7- غزوة ذي العُشَيْرَة: في جمُادى الأولى سنة 2 هجرية بقيادة الرسول r [75].
8- سرية نخلة: في رجب سنة 2 هجرية بقيادة عبد الله بن جحش t [76].
والحقيقة أنه لم يحدث قتالٌ يذكر في السبع معارك الأولى، إلاَّ أنَّها كانت لها فوائد مهمَّة للغاية، تبدَّت في كسر الحاجز النفسي لدى المسلمين من جرَّاء الامتناع عن حرب المشركين لمدَّة أربعة عشر عامًا, وتدريب الصحابة على فنون القتال، وتعريفهم بالمنطقة من حولهم ليُدركوا نقاط القوَّة والضعف فيها، وتَعَرُّفهم على القبائل المحيطة بالمدينة وإعلامهم بمدى قوَّة المسلمين، كما نتج عن هذه السرايا عقد معاهدات حُسْن جوار ودفاع مشترك مع القبائل المجاورة، وكانت هذه السرايا أيضًا بمنزلة إعلان إسلامي صريح للحرب على مشركي مكة، وأنَّ عليها أن تواجه هذه القوَّة التي بدأت تماثلها وتهدِّد أمنها إن عاجلاً أو آجلاً، وهذه الفائدة كانت من أعظم فوائد هذه الدوريَّات الإسلاميَّة.
على أن السَّرِيَّة الأخيرة (سرية نخلة) كانت ذات طابع خاصٍّ، إذ إنها هي التي كانت تمهيدًا للحدث الأهمِّ في تاريخ المسلمين بعد ذلك، وهو غزوة بدر الكبرى؛ فقد كانت بقيادة عبد الله بن جحش t ومعه اثنا عشر مجاهدًا، وكانت في شهر رجب وهو من الأشهر التي حَرَّم فيها العرب القتال، وقد بعث الرسول r هذه السَّرِيَّة أصلاً لاستطلاع أخبار قريش وليس لقتالهم، إلا أنَّ الصحابة وجدوا الفرصة سانحة لقتالهم وكسب القافلة بما فيها، وخاصَّة أن حُرَّاسَها كانوا أربعة فقط، فتمَّ الهجوم على القافلة، وقَتْل أحد الحرَّاس المشركين، وأَسْرِ اثنين آخرين بينما فرَّ الرابع، وغنم المسلمون القافلة بأكملها، وعادوا بها وبالأسيرين إلى المدينة المنورة، الأمر الذي اعترضت عليه قريش, وأعلنت أمام العرب جميعًا أن محمدًا انتهك حُرْمَةَ الأشهر الحرم، وهو ما أنكره أيضًا الرسول r وصحابته، وقد أوقف r التصرُّف في الأسيرين، حتى نزل القرآن الكريم يوضِّح الحقائق للناس كافَّة، ولِيُخْرِجَ المسلمين من المثاليَّة غير الواقعيَّة إلى فقه الواقع والموازنات ومراعاة الأولويَّات، وليؤازر الطائفة المؤمنة الصادقة التي أرادت أن ترفع عن كاهلها وكاهل المسلمين بعض ما وقع عليهم من ظلم, فقال تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ} [البقرة: 217].
فالكفر بالله U، وعبادة الأصنام، ومنع المسلمين من الطواف بالكعبة وأداء المناسك، وفتنة المسلمين عن دينهم بالتعذيب والتشريد والقتل، أكبر من القتال في الشهر الحرام، وكل ذلك فعلته قريش مرارًا وتكرارًا.
وهنا أصبحت المواجهة العسكريَّة بين المسلمين وقريش على مرمى حجر، ولا شكَّ أنَّ قريشًا تفكِّر الآن في مهاجمة المسلمين وحربهم لتستردَّ كرامتها ولِتَرُدَّ تلك الإهانة التي تحدَّثت بها العرب، وهو ما يؤكِّد أن المسلمين مُقبِلُون على مرحلة جديدة تختلف عن مجرد الإذن بالقتال، ونتيجة لهذه الظروف نزل التشريع المُحْكَمُ بالقانون الجديد المناسب للمرحلة الحالية، وهو فرض القتال على المسلمين إذا قوتلوا, قال تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، وأنزل الله U توضيح سبب القتال في هذه المرحلة وبعض الأحكام الخاصَّة به فقال: { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 190- 193].
[69] ابن هشام: السيرة النبوية 1/595.
[70] ابن كثير: البداية والنهاية 3/287.
[71] ابن هشام: السيرة النبوية 1/600.
[72] ابن هشام: المصدر السابق 1/591.
[73] المصدر السابق 1/598.
[74] السابق نفسه 1/600، 601.
[75] السابق 1/598، 599.
[76] السابق 1/601-603. | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:28 | |
| تنقية الصف المسلم
قبل هذه الأزمة والصدام المرتقب حدث في الصفِّ المؤمن بعض الاختبارات، وذلك لتنقيته وتربيته؛ فقد تلا فَرْضَ القتال فَرْضُ عدد من التشريعات الجديدة التي قد تثقل على النفس، ولكن المؤمن قوي الإيمان لا يجد غضاضة فيها، وكان منها فرض الزكاة بنصاب محدَّد وهو 2.5 % من الأموال إذا بلغت نصابًا محدَّدًا ومَرَّ عليها عام قمري كامل، كما فُرِضَ في هذا العام صيامُ شهر رمضان، وهو الشهر التالي للشهر الذي كان المسلمون فيه، ثم كان تحويل القبلة إلى مكة المكرمة بدلاً من بيت المقدس، ذلك الحدث الجلل الذي جاء لِيُمَيِّزَ الصفَّ المسلم عن اليهود وعن غيرهم، بعد أن ظهرت سوء نيَّات اليهود.
يوم الفرقان
يظهر من ذلك أنَّ المسلمين دخلوا في مرحلة جديدة، حيث غزوة بدر الكبرى (16 من رمضان سنة 2هـ)، أو يوم الفرقان، اليوم الذي فرَّق بين مرحلة كانت فيها دولةُ الإسلام دولةً ناشئةً ضعيفةً مهدَّدةً، ودخلوا مرحلة أخرى صارت فيها هذه الدولةُ فَتِيَّةً قويَّةً لها اعتبارٌ وشأنٌ في المنطقة، يَحْذَرُ العالمُ كلُّه أمرَهَا!
وكانت البداية حين خرج رسول الله r ومعه قرابة 314 مجاهدًا، منهم الأنصار لأوَّل مرَّة؛ ليعترضوا قافلة جديدة لقريش هي من أكثر قوافل مكة مالاً ومتاعًا، وكانت بقيادة أبي سفيان بن حرب، وقد وضعت قريش لحراستها 40 رجلاً، وذلك في رمضان، أي بعد شهر ونصف من سريَّة نخلة، وكان زَادُ الرسول rسلاحَ المسافر [77].
وعلى الجهة الأخرى فقد علم أبو سفيان بأمرِ تَجَهُّزِ المسلمين لمهاجمة قافلته، فأرسل من يُحَذِّرُ قريشًا ويستنفرهم للخروج لإنقاذها، وسرعان ما أعدَّتْ قريش العُدَّةَ للحرب؛ فجهَّزت جيشًا جرَّارًا من 1300 فارس، وعلى قيادته كل زعماء الكفر تقريبًا, وعلى رأس الجيش أبو جهل!
لكنَّ أبا سفيان استطاع تدارك الموقف، وغيَّر اتجاهه إلى ساحل البحر الأحمر، ومن ثَمَّ أفلت بالقافلة من الخطر، وأرسل بعدها رسالة أخرى لقريش بأن يعودوا مرَّة أخرى، إلا أن أبا جهل أصرَّ على أن يمكث في بدر ثلاثة أيَّام حتى تسمع العرب بهم، وقد انقسم إذ ذاك جيش المشركين، فعاد ثلاثمائة منهم، وبقي ألف مُصِرِّين على المكوث في بدر.
وفي الوقت ذاته عَلِمَ المسلمون بهذه التحرُّكات، وَأُسْقِطَ في أيديهم، هل يُكملون مسيرهم حتى يَلْقَوُا المشركين، أم يعودون ويُكْفُون أنفسهم شرَّ القتال!! وكان الاختيار صعبًا؛ فإنَّ عودتهم تُمَثِّلُ هِزَّةً قويَّةً لهم، وانتكاسةً عمَّا حقَّقُوهُ من مَكَاسِبَ في سَرِيَّةِ نخلة، كما أن إقدامهم قد يؤدِّي إلى صدام مُرَوِّعٍ، فجيش المشركين كبير ومجهَّز، والمسلمون غير مستعدِّين، وهم أيضًا لا يستبعدون أن يُدَاهمهم جيش مكة في المدنية إذا تراجعوا! وهنا بَرَزت حكمة القائد العظيم رسول الله r؛ إذ استشار صحابته الكرام فيما يرونه مناسبًا، وكان قرارُ الحرب هو الحلُّ، وعُقِدَ العزمُ على حرب المشركين.
لحظة فارقة
بدأ رسول الله r يُنَظِّمُ الصفوف، وَيُعِدُّ العُدَّةَ للمواجهة، فقسَّم الجيشَ إلى مهاجرين وأنصار, وأعطى راية المهاجرين لعليِّ بن أبي طالب, وأعطى راية الأنصار لسعد بن معاذ، وأعطى الراية العامَّة للجيش لمصعب بن عمير, وجعل على الساقة في مؤخرة الجيش قيس بن صعصعة y.
اتَّجَهَ الرسولُ r بالمسلمين إلى أقرب مكان من المشركين، وبدأ يأخذ موقعًا استراتيجيًّا في بدر، واختار أرضًا محدَّدة لكي تكون موقع الحرب، ولكنَّ الحُبَابَ بْنَ المُنْذِرِ t أشار عليه r بموقع آخر أفضل يكون أقرب من ماء بدر، فيشرب المسلمون ولا يشرب المشركون، فوافقه رسول الله r وأخذ برأيه.
وفي نفس الليلة أراد الله U أنْ يُطمئن نفوس الصحابة y، فأنزل عليهم النعاس لتهدئتهم وطمأنتهم، فنام الجميع إلا واحدًا هو رسول الله r الذي ظلَّ طَوَال الليل يدعو ويناجي ربَّه I. كذلك طمأن الله U جنوده المؤمنين الصابرين بأن أنزل عليهم من السماء ماءً، قال عنه: { لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال: 11]. ومن عجيب قدرة الله U أن هذا المطر كان ينزل هيِّنًا لطيفًا على المسلمين، ووابلاً شديدًا مُعَوِّقًا على الكافرين، الذين لم يعرف النوم لهم سبيلاً على الرغم من كثرة عددهم وقوَّة عتادهم؛ وذلك لأنهم لا يعرفون لماذا يحاربون أصلاً، خاصَّة أنَّ أبا سفيان قد عاد بالقافلة!!
وفي صباح المعركة أخذ رسول الله r يبتهل إلى الله بالدعاء ويُلِحُّ فيه ويقول: " اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخَيْلاَئِهَا وَفَخْرِهَا، تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ فَنَصْرُكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ أَحْنِهِمُ الْغَدَاةَ"، ولم يَكُفَّ عنه طَوَال اليوم حتى أشفق عليه الصِّدِّيقُ t وقال له: " هَوِّنْ عليك يا رسول الله فإنَّ الله مُنْجِزٌ لك ما وعدك" [78]. والغريب أن الكُفَّار أيضًا كانوا يَدْعُونَ، وعلى رأسهم أبو جهل، وكان يقول: "اللهم أقطعَنا للرحم، وآتانا بما لا نعرفه، فأحنه الغداة [79]، اللهم أيُّنا كان أحبَّ إليك, وأرضى عندك فانصره اليوم"!! ولعلَّه يريد بذلك -كما هو دَيْدَنُ الطغاة دائمًا- أن يرفع الرُّوح المعنويَّة لجنوده, فَيُوهِمُ مَنْ حَوْلَهُ أنه على الحقِّ، أو أنه وصل إلى درجة عَمَى البصيرة بعد أن أقنعته حاشيته بأنه على الحقِّ، فأصبح يرى المنكر معروفًا والمعروف منكرًا، وهو ما يفسر لنا بعض ما يصدر عن الطواغيت المُعَذِّبين لغيرهم مستبيحين للحرمات.
اقترب الجيشان، وهجم أحد المشركين مُقْسِمًا أن يَرِدَ بئر بدر فيشرب منه أو يموت دونه، فعالجه حمزة بن عبد المطَّلب t بطعنة ثم قتله، ثم برز من المشركين ثلاثة من قادة قريش يريدون المبارزة، فخرج لهم ثلاثة من المهاجرين فقتلوا القرشيَّيْنِ، وبدأ القتال بين الطرفين وبدأ رسول الله r يُحَرِّضُ المؤمنين على القتال، فكانت أروع القصص في الجهاد والاستشهاد!
فها هو ذا عُمَيْرُ بن الحُمَام t ما إن سمع مقولة رسول الله r: " قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ". حتى يُلْقِيَ بالتمرات التي كانت في يديه قائلاً: لئن أنا حييتُ حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة [80]. وخرج فقاتل حتى استُشهِد t [81].
وها هو ذا عمير بن أبي وقَّاص، شابٌّ لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، خشي أن يَرُدَّهُ رسول الله r عن الجهاد فأخذ يتوارى بين القوم حتى لا يراه r، ولكنه r رآه فأشفق عليه لصغر سنه وَرَدَّهُ عن القتال، فبكى الشاب حتى رَقَّ له رسول الله r وسمح له بالجهاد [82].
وهذا سعد بن خيثمة ووالده خيثمة يتسابقان للجهاد، فيستهمان في أيهما يخرج، ويخرج السهم لصالح الابن، فيقول له أبوه خيثمة: يا بُنَيُّ، آثِرْني بالخروج بدلاً عنك. فيقول سعد t في أدب: يا أَبَتِ، لو كان غير الجنة لفعلتُ! [83].
وهذا عمرُ بن الخطاب t يقتل خالَهُ العاصَ بن هشام بن المغيرة [84]؛ ليُثْبِتَ أن رابطة العقيدة أقوى وأهمَّ من أي رابطة أخرى، حتى ولو كانت رابطة الدم والنسب، وذاك في وقت القتال.
هذا، وقد بدأت أمارات الفشل والاضطراب تظهر في صفوف المشركين، وجَعَلَتْ صفوفهم تتهدَّم أمام حملات المسلمين العنيفة، واقتربت المعركة من نهايتها، وأخذت جموع المشركين في الفِرار والانسحاب المبَدّد، ورَكِبَ المسلمون ظهورهم؛ يأسرون ويقتلون، حتى تمَّت عليهم الهزيمة، وتحقَّق النصر بفضل من الله U، وكان قتلى المشركين سبعين رجلاً، على رأسهم صناديد قريش وزعماؤها، كأبي جهل وعتبة وشيبة ابني ربيعة وأمية بن خلف وغيرهم، وكان أسراهم أيضًا سبعين.
وقد كان من أسباب النصر في بدر ما أوحى الله U إلى رسوله r: { أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]، وأوحى إلى ملائكته: { أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال: 12]. كما جعل الله U الكافرين قِلَّةً في أَعْيُنِ المسلمين، وكذلك جعل المسلمين في أعين الكافرين، وهذا لحكمة يعلمها U؛ قال تعالى: { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الأنفال: 44].
وهكذا يتبين أنه { وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ} [آل عمران: 126]، وأنَّ كلَّ ما على المسلمين هو الإعداد قدر الاستطاعة، والأخذ بالأسباب، بعد ذلك فإنَّ موازين القوى كلَّها ستكون في صالحهم، ما داموا قد حقَّقُوا صفات الجيش المنتصر [85].
وقد غدت غزوة بدر -كما أشرنا- لحظة فارقة في تاريخ الأمة الإسلاميَّة، وترتب عليها العديد من الآثار المهمَّة، والتي من أهمِّها الميلاد الحقيقي للدولة الإسلاميَّة، والسقوط المَهِيب لقريش وهيبتها في الجزيرة العربيَّة، حتى إنها حاولت تعويض هذه الهزيمة بقتل رسول الله r غيلةً؛ وذلك في مرَّتين إلا أنهما باءتا بالفشل، كانت الأولى من عمير بن وهب الذي خرج لقتل رسول الله r، فلما قابله أَسْلَمَ بين يديه وأصبح من الدعاة إلى الله في مكة، وكانت الثانية من أبي سفيان بن حرب الذي هاجم المدينة ليلاً فقتل اثنين من الأنصار وسرق بعض الماشية وهرب مسرعًا، وقد تبعه رسول الله r وأصحابه؛ لكنَّهم لم يظفروا بهم، وأخذوا (السَّوِيقَ) -وهو نوع من الطعام- الذي كان معهم، وعُرِفَتْ هذه الغزوة باسم غزوة السَّوِيقِ، وكانت بعد بدر بشهرين [86]. | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:28 | |
| كما كان من نتائج هذه الغزوة أيضًا ظهور المنافقين، وهي طائفة جديدة ظهرت في مجتمع المدينة المنورة، بزعامة عبد الله بن أبيٍّ ابن سلولَ، الذي جاء لرسول الله r معلنًا الإسلام وهو يُبطن الكفر، وصارت هذه الفئة أخطر الفئات مطلقًا على الأُمَّة الإسلاميَّة، لكونهم يدبِّرون ويكيدون للإسلام، بينما ظاهرهم عكس ذلك تمامًا، وكان لا بُدَّ من وسيلة للتفرقة بين المؤمن والمنافق، وبين الصادق والكاذب، ومن ثَمَّ دخل المسلمون في مرحلة جديدة مهمَّة، يمكن أن نُطلق عليها: زمن وضوح الرؤية، وهي عبارة عن سلسلة مضنية من الأزمات، والابتلاءات، والضوائق، والمعارك.
وكما علمنا فإنَّ رسول الله r كان قد عقد معاهدات مع قبائل اليهود في المدينة، فلما عاد من بدر منتصِرًا وجد اليهود قد ازدادوا غيظًا وحنقًا للانتصار العظيم الذي حقَّقه المسلمون في بدر، فكشفوا عن وجه الغدر والمكر، ونكثوا عهدهم مع رسول الله r، وحدث أنْ تآمر أحد يهود بني قينقاع على كشف عورة امرأة مسلمة في السوق، فثارت ثائرة أحد المسلمين، فقتل اليهودي، فاجتمع يهود بني قينقاع على المسلم وقتلوه، وما أن علم بذلك رسول الله r حتى خرج بجيشه إلى بني قينقاع بعد أقلّ من شهر من غزوة بدر، وحاصرهم في قلاعهم أسبوعين كاملين حتى قذف الله الرعب في قلوبهم ورضخوا لحكم رسول الله r عليهم بالجلاء عن المدينة [87].
ومن يهود بني النضير كان كعب بن الأشرف لا يفتأ يُحَرِّض قريشًا على حرب المسلمين، وتمادى في ذلك بسبِّ رسول الله r وأصحابه، وبدأ يتحدَّث بالفُحْشِ في شعره عن نساء الصحابة، فلم يكن من رسول الله r إلا أن قرَّر قتله، ولم يحارب قبيلته، وبعد هذين الموقفين الحاسمين من رسول الله r مع بني قينقاع ومع كعب بن الأشرف، بدأ اليهود من بني النضير وبني قريظة يتربَّصون بالمسلمين [88].
[77] الواقدي: المغازي ص25-28.
[78] ابن هشام: السيرة النبوية 1/627.
[79] ابن هشام: المصدر السابق 1/628.
[80] مسلم عن أنس بن مالك: كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد (1901).
[81] ابن كثير: البداية والنهاية 3/338.
[82] ابن كثير: البداية والنهاية 3/396.
[83] ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/482.
[84] ابن كثير: البداية والنهاية 3/354، وابن سعد: الطبقات الكبرى 5/31.
[85] السهيلي: الروض الأنف 3/128-129، وابن كثير: البداية والنهاية 3/328، 329.
[86] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/175، والسهيلي: الروض الأنف 3/220-222، وابن كثير: البداية والنهاية 3/415 وما بعدها.
[87] الطبري: المصدر السابق 2/172-174، وابن كثير: المصدر السابق 4/5.
[88] الطبري: السابق 2/177 وما بعدها، وابن كثير: السابق 4/6. | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:29 | |
| غزوة أحد
أمَّا قريش فسُرْعَان ما جهَّزت جيشًا كبيرًا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل بعد نحو عام من بدر، أي في السنة الثالثة للهجرة، على رأسه أبو سفيان بن حرب، وبدأت تستعين بقبائل العرب المحيطة بها، والتي ما إن علم رسول الله r بتحركاتهم حتى بدأ بوضع استعداداته لقتالهم، فكان والمسلمون على أتمِّ الاستعداد للقتال، وقد بدأ المسلمون يفكِّرُون في كيفيَّة المواجهة، وهل يخرجون من المدينة؟ وهو رأي غالبيَّة المسلمين، أم يبقون يقاتلون المشركين داخلها؟ وهو رأي رسول الله r.
وقد نزل رسول الله r على رأي غالبيَّة المسلمين, ولكنَّ بعضًا منهم رأوا أنهم إن خرجوا خالفوا بذلك رأي رسول الله r فتراجعوا عن رغبتهم في القتال خارج المدينة، لكن رسول الله لم يتردَّد بعد أن أخذ قراره، وقال لهم: " مَا يَنْبَغِي لِنَبِّيٍّ إِذَا لَبِسَ لأْمَتَهُ -درع الحرب- أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ" [89].
وبدأ رسول الله r في إعداد العُدَّة وتنظيم صفوف المجاهدين؛ فجهَّز ألف مقاتل، ووضع مصعبَ بنَ عُمَيْرٍ على كتيبة المهاجرين، وعلى كتيبة الأوس أُسَيْدَ بنَ حُضَيْر، وعلى كتيبة الخزرج الحُبَابَ بنَ المُنذر [90]، وما إن خرج المسلمون إلى أُحُدٍ، حتى انسحب عبد الله بن أبيِّ بْنُ سلولَ بثلاثمائة من جيش المسلمين، وأعلن تمرَّده وعدم موافقته على الخروج من المدينة [91]، وفيهم نزل قوله تعالى: { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47].
وفي أُحُد اختار رسول الله r للمسلمين موقعًا مركزيًّا؛ حيث يكون جبل أُحُد حاميًا لظهر المسلمين، ويكون المسلمون في مكان مرتفع نسبيًّا، أمَّا الجيش المكِّيُّ فيكون في مكان منخفض ممَّا يُعطي للمسلمين قوَّةً أكثر على القتال، كذلك وَجَد r جبلاً صغيرًا يُعَدُّ ثغرةً قد ينفذ منها المشركون إلى جيش المسلمين ويُطَوِّقونه، فوضع عليه خمسين رجلاً من أمهر الرُّماة، وأوصاهم بألاَّ يبرحوا موقعهم مهما حدث [92]، وأمَّرَ عليهم عبد الله بن جُبَيْرٍ t [93].
وعلى الجانب الآخر بدأ أبو سفيان يُعِدُّ عُدَّتَه ويُنَظِّمُ جنوده، واضعًا خالد بن الوليد في الميمنة وعكرمة بن أبي جهل في الميسرة، واللواء لبني عبد الدار، ومن ورائهن النساء وعلى رأسهن هند بنت عتبة ليُحَمِّسْنَ الجيش على القتال [94].
وكانت ثَمَّة محاولة من أبي سفيان لتشتيت الجيش المسلم حين راسل الأنصار بأن يُخَلُّوا بينه وبين بني عمومته؛ لأنه لا حاجة له إلى قتال الأنصار، لكن مثل هذه المحاولة لم تَجِدْ لها موقعًا في قلوب الأنصار، الذين ردُّوا عليه ردًّا عنيفًا، وأسمعوه ما يكره.
وقد بدأ القتال بضراوة شديدة حول راية المشركين، فَقَتَلَ المسلمون حملةَ الراية من بني عبد الدار، واحتدم القتال بين الفريقين، وكان شعار المسلمين في هذا اليوم "أَمِتْ أَمِتْ" [95]، وقد سقط أَحَدَ عَشَرَ قتيلاً من المشركين مقابل لا شيء من المسلمين, فارتفعت معنويَّات المسلمين إلى أعلى درجة، وسيطروا على الموقف، وأصبح النصر حليفهم، وانهارت معنويات الكفار، وقد سارعوا بالفِرار تاركين أمتعتهم وأموالهم في أرض المعركة.
وكان للفصيلة التي عيَّنها الرسول r على الجبل يَدٌ بيضاء في إدارة دَفَّة القتال لصالح الجيش الإسلامي، فقد هجم فرسان مكة بقيادة خالد بن الوليد ثلاث مرَّات ليتسرَّبوا إلى ظهور المسلمين، ولكن هؤلاء الرماة رشقوهم بالنبل، ففشلت هجماتهم الثلاث.
لكن المخاطرة العجيبة والتي قلبت الأمور فجأةً رأسًا على عقب كانت قد بَدَتْ حين رأى الرماةُ الغنيمةَ على مرمى البصر، ورأوا النصر باديًا؛ فنسُوا أوامر رسول الله r، فتخلَّى أربعون فارسًا منهم عن موقعهم، فانتهزها خالد بن الوليد والتفَّ حول المسلمين بفرقته، وتمكَّن من السيطرة على العشرة الباقين من الرماة، وصاح بالمشركين لكي يعودوا، فاستطاع حصر المسلمين الذين وقعوا بين شقَّيِ الرَّحَى!
وقد بُوغِتَ رسول اللَّه r وهو في نفر قليل من أصحابه بفرسان خالد، فما كان منه إلا أنْ ثبت r وأخذ يدعو الجيش ليجمعه حوله، وقد شُجَّ وجهُهُ، وكُسِرَتْ رباعيته [96]، ومن بعدها تدافع المسلمون الصحابة في الدفاع عن رسول الله r والتفُّوا حوله، وأخذوا يحمونه من كلِّ جانب.
وفي تلك الأثناء أُشِيعَ مقتلُ رسول الله r، فأحدث ذلك زلزلةً وإحباطًا في نفوس كثير من المسلمين، لدرجة أنَّ بعضهم قعد عن الجهاد، وظلُّوا على ذلك حتى رآه كعب بن مالك t فبشَّر المسلمين بأنه r ما زال حيًّا، الأمر الذي انتبه إليه المشركون، وعادوا للالتفاف حول رسول الله r، الذي قاد المسلمين إلى الانسحاب المنظَّم إلى الجبل، وكانت فِرْقَةٌ أخرى من المسلمين قد فرَّت لمَّا رأت الهزيمة [97]!
وبعد انتهاء المعركة نزل رسول الله r من الجبل لتَفَقُّدِ الشهداء في أرض المعركة، وكانوا قد بلغوا سبعين شهيدًا من كبار الصحابة y، على رأسهم سيِّد الشهداء، وأسد الله، وعمِّ رسول الله r حمزة بن عبد المطلب t، وحنظلة بن أبي عامر t، الذي خرج إلى الجهاد في صبيحة عرسه، وكان على جنابة فغسَّلته الملائكة!! ثم عاد الجيش الإسلامي إلى المدينة المنورة، واستُقْبِلُوا بمشاعر الحزن والأسى، والتي لم يُخَفِّفْ مِنْ وَقْعها إلا نَجَاة رسول الله r، فكانوا يقولون: "كلُّ مصيبة بعد رسول الله جَلَل [98]" [99].
وقد كان من أهم آثار مصيبة أُحُدٍ تنقية الصفِّ المؤمن من المنافقين؛ قال تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ المُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران: 166، 167]. فهذه التصفية لم تكن لتَحْدُثَ لولا الحرب، وقد أراد الله U أن يُعَلِّمَ الأُمَّةَ الإسلاميَّةَ أنَّ من صفات المنافقين الفِرار من المعركة، وهو ما فعله المنافقون قبل بَدْء المعركة، كما كان من آثارها أن يَعْلَمَ المسلمون شؤم المعصية, والتي تبدَّت في مخالفة مجموعة الرُّماة أمر النبي r.
وفي اليوم التالي لمصيبة أُحُدٍ مباشرةً قرَّر رسول الله r أن يخرج بجيش المسلمين الذي حارب بالأمس إلى منطقة حمراء الأسد [100] ليقوم بمطاردة الجيش المكِّيِّ [101]، الذي خاف r أن يرجع من الطريق لغزو المدينة، خاصَّة وأنَّ المشركين لم يستفيدوا شيئًا من النصر والغلبة التي كسبوها في ساحة القتال، ومن ناحية أخرى أراد الرسول r أن يُعِيدَ الثقة إلى جيشه، وقد استخدم رسول الله r الحيلة في هذه الغزوة، بأن خَذَّلَ المشركين؛ فأرسل مَن يُخبر أبا سفيان بأنَّ جيش المسلمين هذه المرَّة أكثر عُدَّةً وعتادًا [102]، وهو ما أتى بتأثيره فخاف أبو سفيان أن يُضَيِّعَ ما حقَّقه في أُحُدٍ من انتصار، فعاد بمَنْ معه مُنْسَحِبًا إلى مكة، وبذلك خرج المسلمون من هزيمتهم النفسيَّة واستردُّوا هيبتهم [103]. | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:30 | |
| النشاط العسكري بعد أحد
نتيجة لمصيبة أُحُد تغيَّرت العديد من المواقف عمَّا كانت عليه بعد بدر؛ إذ زالت هيبة المسلمين بعض الشيء، وكاشفهم اليهود والمنافقون والأعراب بالعداء السافر، وهمَّت كلُّ طائفة منهم أن تنال من المؤمنين، بل طمعت في أن تقضي عليهم وتستأصل شأفتهم؛ فلم يمضِ على هذه المعركة شهران حتى تهيَّأت بنو أسد للإِغارة على المدينة، وذلك في المحرم سنة أربع من الهجرة، ثم قامت قبائل عَضَل وقَارَةُ في شهر صفر من نفس السنة بمكيدة تُعرَف بيوم الرجيع، تسبَّبت في قتل عشرة من خيرة الصحابة [104]، وفي نفس الشهر قام بنو عامر بمكيدة مثلها تسبَّبت في قتل سبعين من الصحابة، وتُعْرَف هذه الوقعة بوقعة بئر معونة، وتمَّت أحداثها حين بعث رسول الله r المنذر بن عمرو من بني ساعدة في سبعين من خيرة الصحابة العلماء القُرَّاء إلى بني عامر لدعوتهم إلى الإسلام، ولكنهم ما إن وصلوا حتى غدر بهم عامر بن الطفيل، واستعدى عليهم بني سُلَيْمٍ فقتلوهم عن آخرهم!! فظلَّ الرسول r يَقْنُتُ شهرًا كاملاً يدعو على قاتليهم [105].
هذا، ولم تزل بنو النضير خلال هذه المدَّة تُجاهر بالعداوة حتى قامت في ربيع الأوَّل سنة أربع من الهجرة بمكيدة تهدف إلى قتل النبي r، فأوحى الله U لرسوله ما يُضْمِرُون، فرجع r وأمر بإجلائهم من المدينة، وأمهلهم عَشَرة أيَّام حتى خرجوا، وكان المنافقون يُناصرونهم كعادتهم، كما تجرَّأت بنو غَطَفَان حتى همَّت بالغزو على المدينة في جُمادى الأولى سنة أربع من الهجرة [106].
وبعد إخراج بني النضير من المدينة بعث الرسول r السرايا إلى بعض جهات الجزيرة، وخرج r بنفسه على رأس جيش لتأديب أهل نجد الذين أوقعوا بالمسلمين في بئر معونة وماء الرَّجِيع، ففرَّ أهل نجد من أمام جيش المسلمين، وعندما عاد الرسول r إلى المدينة بدأ يُعِدُّ العُدَّة للخروج للقاء قريش عند ماء بدر حسبما اتُّفِقَ سابقًا مع أبي سفيان على هذا الموعد، وخرج أبو سفيان بجيش من ألفي مقاتل، ولكنَّه رجع خوفًا من أن يهاجمه المسلمون، وأقام الرسول r وأصحابه ثمانية أيَّام ببدر في انتظار أن يأتيه أبو سفيان، ثم عاد بعد ذلك وقد علمت العرب كلُّها قُوَّتَهم وَمَنَعَتَهُم، واستُعِيدَت هيبة المسلمين في الجزيرة العربيَّة, واستكان المنافقون في المدينة، وأبدى يهود بني قُرَيْظَةَ -القبيلة الوحيدة المتبقِّية من اليهود في المدينة- رضاهم واستسلامهم لعهد رسول الله r.
غير أن بقيَّة اليهود لا سيَّما الذين في الخارج خافوا من قوَّة المسلمين، ففكَّروا في جمع العرب كلهم ضدَّهم، فخرجت مجموعة من يهود بني النضير ويهود خيبر إلى قبائل العرب المحيطة لحثِّهم على قتال المسلمين [107]، وخرجت فِرْقَةٌ إلى قريش كذلك, بل وأغرى اليهود بعض القبائل كغَطَفَان بالمال حتى يُوَافِقوا على أن يجمعوا لهم ستَّة آلاف مقاتل، وتمكَّنت قريش من تجميع أربعة آلاف مقاتل، وذلك بهدف القضاء نهائيًّا على الدولة الإسلاميَّة.
[89] البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول الله تعالى: "وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ" (الشورى: 38) 6/2681.
[90] ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/150.
[91] ابن كثير: السيرة النبوية 3/25.
[92] روى البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب... (2874) قول رسول الله r للرماة: "إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَلا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ فَلا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ". وانظر: ابن هشام: السيرة النبوية 2/67.
[93] البخاري عن البراء بن عازب: كتاب المغازي، باب فضل من شهد بدرًا (3764).
[94] ابن هشام: السيرة النبوية 2/67.
[95] المصدر السابق 2/68.
[96] السابق نفسه 2/80.
[97] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/200، وابن كثير: البداية والنهاية 4/39.
[98] أي يسيرة.
[99] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/210، وابن كثير: البداية والنهاية 4/54.
[100] حمراء الأسد: تقع جنوب المدينة على يمين طريق الهجرة المتجه إلى مكة المكرمة، انظر: ياقوت الحموي، معجم البلدان 2/301.
[101] ابن هشام: السيرة النبوية 2/101.
[102] المصدر السابق 2/102.
[103] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/212، 213، وابن كثير: البداية والنهاية 4/56، 57.
[104] ابن هشام: السيرة النبوية 2/168، 169.
[105] ابن هشام: السيرة النبوية 2/183-185.
[106] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/223 وما بعدها، وابن كثير: البداية والنهاية 4/85 وما بعدها.
[107] السهيلي: الروض الأنف 3/416، 417. | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:30 | |
| غزوة الأحزاب.. مرحلة فاصلة
في مرحلة جديدة فارقة في تاريخ المسلمين، كان اجتماع الأحزاب من قريش وغَطَفَان وغيرهما على حرب المسلمين بمساعدة يهود خيبر، وذلك فيما عُرِفَ في السيرة بغزوة الأحزاب، أو غزوة الخندق، في واحدة من أشدِّ الأزمات التي مرَّت بالأُمَّة الإسلاميَّة ضراوة، إن لم تكن أشدَّها على الإطلاق.
بدأ المسلمون يتشاورون في كيفيَّة مواجهة تجمُّع جيوش المشركين، وقد راقت فكرةُ سلمان الفارسيِّ t بحفر خندقٍ حول المدينة يمنع جيشَ المشركين من دخولها، رسولَ الله r وأصحابه، وعقدوا العزم على تنفيذها رغم ضخامة ذلك المشروع الجبَّار, والذي أرسى بعض الفوائد التربويَّة في الصفِّ المؤمن.
وصلت جحافل الأحزاب من قريش وبني غَطَفَان وغيرها من قبائل العرب إلى حدود المدينة في الخامس من شوال سنة خمس من الهجرة، وكان الخندق الذي حفره المسلمون مفاجأةً مذهلة لهم، وحاول بعضهم أن يخترق هذا الخندق إلاَّ أن المسلمين واجهوهم بشراسة، وعليه استمرَّ حصار المشركين للمدينة شهرًا كاملاً، وكان الموقف جدّ عسير على كِلا الطرفين، حتى أُسْقِطَ في أيدي الأحزاب، واحتاروا في الحلِّ، حتى جاءهم أخيرًا من عند يهود بني قريظة الذين كان بينهم وبين رسول الله r معاهدة، فنقضوها وتحالفوا مع المشركين على تجهيز فرقة عسكريَّة يهوديَّة لقتال المسلمين مع قريش وحلفائها.
وما إن وصل خبرُ بني قريظة إلى رسول الله r حتى حزن حزنًا شديدًا، ولكنَّه على الرغم من ذلك بَشَّرَ المسلمين بالنصر، وحاول ألاَّ ينتقل الخبر إلى جموع المسلمين وهو ما لم يحدث، فكان الانتقال من مرحلة الابتلاء في الحصار إلى مرحلة الزلزال، كما قال الله U: { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا} [الأحزاب: 10، 11].
وقد تأزَّم الموقف بظهور الوجه الأسود للمنافقين، الذين بدءوا يتسرَّبون من صفوف المسلمين ويقعدون عن الجهاد، حتى لم يَعُدْ في الصفِّ المسلم أَحَدٌ من المنافقين، ومن شدَّة خوف المسلمين فإنهم كانوا يَدْعُون الله I ويقولون: "اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا". وكان الرسول r يقول: " اللُّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اهْزِمِ الأَحْزَابَ, اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ" [108].
وبفضل الله ثبت المؤمنون وصبروا، وتحمَّلوا الجوع والخوف والبرد، وبعد أن بذل المسلمون كل طاقتهم لم يكن في استطاعتهم إلاَّ أن ينتظروا نصر الله -ولا شكَّ فيه- وبالفعل جاءت جنود الرحمن، وكان منها أن نُعيم بن مسعود t، وهو رجل من غَطَفَان أَسْلَمَ في هذا الوقت الحرج، وأتى إلى رسول الله r عارضًا المساعدة, فقال له رسول الله r: " إِنَّمَا أَنْتَ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَخَذِّلْ عَنَّا مَا اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ" [109]. وقد ألهم الله U نُعيمًا أن يُوقِع بين اليهود وبين مشركي مكَّة وقبائل غَطَفَان، فدبَّت الفُرْقَةُ بين الفريقين، وتفتَّت الأحزاب, وكفى الله المؤمنين القتال [110] .
كما كان من جنود الرحمن أن الله U أرسل ريحًا شديدةً وقاسيةَ البرودة على معسكر الكافرين, فلم تترك لهم خيمة إلا اقتلعتها، ولا قِدرًا إلا قلبته، ولا نارًا إلا أطفأتها [111]، ووصلت شدَّة الريح وخطورتها على المشركين إلى أن دفعتهم لأخذ قرار العودة وفكِّ الحصار دون قتال، وانتهت واحدة من أعظم معارك المسلمين، مع أنه لم يحدث فيها قتال، وكأنَّه U يُرِيد أن يعلمنا أنْ ليس المطلوب هو تحقيق النصر، ولكن المطلوب هو تَوَافُر صفات الجيش المنصور، أما النصر فينزل بالطريقة واللحظة التي يريدهما الله U!!
وعلا نجم المؤمنين مرَّة أخرى؛ حتى قال رسول الله r بعد رحيل الأحزاب كلمته المشهورة التي تُعَبِّر عن الدخول في مرحلة جديدة: " الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلاَ يَغْزُونَا، نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ" [112]. أي ستنتقل الدولة الإسلاميَّة من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم والتوسُّع، وستكون مرحلة تمكين دين الله U في الأرض، وسيكون فيها صلح الحُدَيْبِية [113]، وفتح خيبر، ومؤتة، وفتح مكة، وحُنَيْن، وتَبُوك, وفيها المراسلات إلى ملوك العالم وأمرائه, وتَسَابُق الوفود لإعلان إسلامهم بين يدي النبي | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:31 | |
| تأديب الأحزاب
إنْ كانت قصَّة الأحزاب قد انتهت فقصَّة يهود بني قريظة لم تنتهِ بعدُ، فجاء رسول الله r وحَرَّضَ المسلمين إلى الخروج إلى بني قريظة، ووصل جيش المسلمين الثلاثة آلاف إلى حصون بني قُرَيْظَة يحاصرونهم خمسة وعشرين يومًا، حتى قذف الله U الرعب في قلوبهم، فاستسلموا وخضعوا لحكم رسول الله r، فأمر رسول الله r أن يُقَيَّدُوا، وحَكَّمَ فيهم سعد بن معاذ t، الذي قضى بأن يُقْتَلَ الرجالُ، وتُسْبى الذُّرِّيَّةُ، وتُقَسَّمَ الأموالُ [114].
وفي شهر ذي القَعْدَة للسنة الخامسة من الهجرة بدأ المسلمون مرحلة جديدة، وذلك بشنِّ الحملات العسكريَّة المتتابعة والسريعة لتأديب أولئك الذين غدروا بالمسلمين، وكانت تلك الحملات مكثَّفة بمعدَّل حملة واحدة كلّ عشرين يوم تقريبًا، وكان فيها إرهاق شديد على الدولة الإسلاميَّة الناشئة، لكنَّه إرهاق لا بُدَّ منه؛ فبدأ الرسول r الجهاد في سبيل الله مباشرة بعد رحيل الأحزاب بأولئك الذين حرَّكوا جموع العرب لغزو المدينة وبالتحديد اليهود، وبخاصَّة زعمائهم، فأرسل رسول الله r سريَّة للتخلُّص من سلاَّم بن أبي الحُقيق في خيبر، وكان على رأس هذه السريَّة عبد الله بن عَتِيكٍ t, وكانت في شهر ذي الحجة لسنة خمس من الهجرة [115]، أي بعد رحيل الأحزاب بأقل من شهر.
وكانت أيضًا سريَّة محمد بن مَسلمة إلى القُرَطَاءِ، مُوَجَّهَةً إلى بني بكر [116]، وعلى الرغم من قلَّة عدد المجاهدين فيها إلا أنهم استطاعوا أن يُحَقِّقوا فيها نتائج هائلة، ووقع في الأسر زعيمهم ثُمَامَة بن أُثَال، الذي أطلقه رسول الله r مع أنه كان قادرًا على قتله، وهو ما جعل ثُمَامَة t يُسْلِمُ، ويقول للرسول r: "والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه إليَّ...". ثم قرَّر ثمامة مقاطعة قريش، فقال مخاطبًا زعمائهم: "لا والله لا يأتيكم من اليمامة حبَّة حنطة حتى يأذن فيها النبي r" [117].
كما كانت غزوة بني لِحيان لتأديب قبيلتي عَضَل والقَارَة في ربيع الأول سنة ستٍّ هجريَّة لغدرهما بعشرة من الصحابة عند ماء الرَّجِيع، بعد أنْ أَوْهَمُوا المسلمين أنهم يُريدون هؤلاء الصحابة لتعليمهم الإسلام، وكذلك كانت غزوة ذي قَرَدٍ [118]، وغزوة بني لحيان [119].
وقد بدأ رسول الله r في إخراج سرايا منظَّمة إلى القبائل التي شاركت في حصار الأحزاب، والقبائل التي اشتركت في قتال المسلمين قبل ذلك، أو إلى تلك التي تَتَجَمَّعُ لغزو المدينة المنورة؛ وذلك في أكثر من عَشْر سرايا.
وفي خلال ذلك وقعت غزوة بني المصطلق؛ وذلك في شعبان سنة ستٍّ من الهجرة عندما سمع رسول الله r بِتَجَمُّعِ قبيلة بني المصطلق واستعدادهم لغزو المدينة، فباغتهم r عند منطقة تعرف بماء المُرَيْسِيع، وانتصر عليهم انتصارًا كبيرًا، وغَنِمَ المسلمون غنائم ضخمة، وسَبَوْا عددًا كبيرًا من نساء القبيلة، كان منهم جُوَيْرِيَة بنت الحارث ابنة زعيم بني المصطلق التي تزوجها الرسول r، فأعتق الصحابةُ سبايا بني المصطلق، فأسلمت القبيلة كلها، وكان نصرًا عزيزًا للإسلام والمسلمين [120].
وقد وقع في هذه الغزوة حادثة الإفك [121]؛ حيث أشاع رأس النفاق عبد الله بن أُبيٍّ ابنُ سلولَ الإفك عن السيدة عائشة أمِّ المؤمنين -رضي الله عنها- والصحابي الجليل صفوان بن المُعَطَّل السلمي، وشارك في إذاعة الإفك بعضُ المسلمين جهلاً؛ ممَّا أحدث بَلبلة واضطرابًا في المجتمع الإسلامي، ولكن نزلت سورة النور في النهاية لتظهر الحقيقة بتبرئة السيدة عائشة -رضي الله عنها- وصفوان بن المُعَطَّل t، ولتفضح المنافقين، وتلقِّن المسلمين درسًا جديدًا في التعامل مع ما يُشيعه المنافقون وأعداء الأُمَّة.
هذا، وقد كان لهذه الحملات العسكريَّة آثارٌ إيجابيَّة عظيمة بالنسبة للمسلمين، تمثَّلت في تَحَسُّن الوضع العسكري والاقتصادي والأمني لهم في المدينة المنورة، وإقاماتهم للعديد من العَلاقات الدبلوماسيَّة الناجحة مع القبائل المجاورة؛ ممَّا أدَّى إلى رفع معنوياتهم من جهة، ونشر الإسلام في أنحاء الجزيرة العربيَّة، بل وفي العالم بأسره.
وكان هذا على حساب قريش التي شعرت بمدى قوَّة الدولة الإسلاميَّة، وفقدت العديد من عَلاقاتها بالقبائل المجاورة، كما أصبحت تتوقَّع أن يُدَاهِمَها المسلمون في أيَّة لحظة، كما أثَّر ذلك على اليهود الذين ضعفت قوَّتهم تدريجيًّا بسبب القضاء على أكابر مجرميهم وفقدهم للكثير من أحلافهم، ولم يكن أمامهم بعده إلا الاستكانة التامَّة, والعمل في الخفاء، كما هو شأنهم كلمَّا قَوِيَت الدولة الإسلاميَّة.
وهذه الآثار مجتمعة تُشير إلى أن هناك حدثًا كبيرًا سيكون له أبلغُ الأثر في تغيير الأوضاع، والانتقال إلى مرحلة جديدة تتبدَّلُ فيها موازين القوى في الجزيرة العربيَّة، بل وفي العالم أجمع آنذاك، وهو صلح الحديبية، والذي ستَعْتَرِف فيه قريش -وللمرَّة الأولى- بدولة المسلمين.
[108] البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى: كتاب الجهاد والسير، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة (2775).
[109] عبد الرزاق: مصنف عبد الرزاق، كتاب المغازي، وقعة الأحزاب وبني قريظة (9737).
[110] ابن القيم: زاد المعاد 2/240، وابن الأثير: الكامل في التاريخ 2/73.
[111] ابن هشام: السيرة النبوية 2/232.
[112] البخاري عن سليمان بن صُرَدَ: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب (3884).
[113] الحديبية: بتخفيف الياء وتشديدها، هي قرية على تسعة أميال من مكة سميت ببئر فيها. انظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان 2/229.
[114] الواقدي: المغازي 1/512، والطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/249، 250، وابن كثير: البداية والنهاية 4/139.
[115] ابن سيد الناس: عيون الأثر 2/65، وابن سعد: الطبقات الكبرى 2/91، وابن كثير: البداية والنهاية 4/156.
[116] ابن هشام: السيرة النبوية 2/612، والخضري: نور اليقين في سيرة سيد المرسلين 1/129.
[117] ابن كثير: البداية والنهاية 5/59.
[118] ابن هشام: السيرة النبوية 2/281.
[119] المصدر السابق 2/280.
[120] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/254 وما بعدها، وابن كثير: البداية والنهاية 4/178 وما بعدها.
[121] ابن هشام: السيرة النبوية 2/297، 298 | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:32 | |
| الخروج للعمرة وصلح الحديبية
فبعد سنة من غزوة الأحزاب، وفي شوال من السنة السادسة هجريَّة رأى رسول الله r في المنام أنه يدخل البيت الحرام مع أصحابه جميعًا معتمرين، ورؤيا النبيِّين حقٌّ، ففهم r أن عليه أنْ يأخذ أصحابه ويذهبوا معتمرين إلى البيت الحرام في عُقْرِ دار قريش، وهو ما انشرحت له صدور الصحابة مع خطورته، وكَرِهَ المنافقون الخروج، فلم يخرج منهم غير رجل واحد.
وخرج المسلمون بسلاح المسافر، وكان معهم مجموعة ضخمة من الإبل ليذبحوها في مكة المكرمة، وعندما وصلوا ذا الحُليفة أحرم r وأصحابه، وبدءوا بالتلبية، وعندما وصل الرسول r إلى منطقة تسمى كُرَاع الغَمِيمِ -على بعد 60 كم من مكة تقريبًا- فوجئ بأنَّ قريشًا قد جمعت جيشًا لِصَدِّهِ عن أداء العمرة [122].
هنا وقف r يأخذ الشورى, فكان هناك رأيٌ بأن يلتفَّ المسلمون خلف قبائل الأحابيش المتحالفة مع قريش، ويُغِيرُوا على ديارهم، فيَسْبُوا ويأسروا، ويكون ذلك لهم عزَّة ومنعة وقوَّة على الكافرين، ولكن تكلَّم أبو بكر الصديق t قائلاً: "الله ورسوله أعلم، إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أَحَدٍ، ولكن مَن حَالَ بيننا وبين البيت قاتلناه". وهو ما قَبِلَه النبي r والصحابة واستحسنوه، ومِنْ ثَمَّ أكملوا الطريق، ولكنَّ قريشًا كانت مُصِرَّةً على منعهم من الدخول إلى مكة المكرمة في عمرة أو غيرها، لذلك جهَّزت حوالي مائتي فارس على رأسهم خالد بن الوليد، ووراءهم جيش مكة.
فما كان من الرسول r إلا أن انحرف بالصحابة y عن جيش خالد بن الوليد، وواصل التوجُّه إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، ووصل إلى الحديبية، وهناك جاءه بُديل بن ورقاء الخُزَاعي يحذره من استعدادات قريش للقتال، فأخبره الرسول r بأنَّه لم يأتِ لقتالٍ وإنما للعمرة، ثم عرض عليه أن يطلب من قريش أن تضع الحرب بينها وبينه مدَّة من الزمان، أو أنْ يُسْلِمُوا، أو أنْ يختاروا القتال [123].
انطلق بُديل إلى قريش وأبلغها هذه المطالب، فقرَّروا إرسال رسول آخر هو الحُليس بن علقمة، والذي أرسل الرسول r البُدْنَ أمامه ليُشْعِرَه أنه ما جاء إلى هنا إلا ليقوم بما يُعَظِّمه هو وقومه، واستقبله الصحابة وهم يُلَبُّون: لبيك اللهم لبيك. فلما رآهم الحُليس تعجَّب ورجع إلى المشركين يقول لهم: أدخلوه مكة يؤدِّ عُمْرَته، فما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيت [124].
وهنا أرسلت قريش وسيطًا ثالثًا هو عروة بن مسعود الثقفي، والذي رجع لقريش قائلاً: أَيْ قوم، والله لقد وفدت على الملوك، على قيصر وكسرى والنجاشي، ووالله ما رأيت ملكًا يُعَظِّمه أصحابه كما يُعَظِّم أصحاب محمد محمدًا [125].
وقد فكَّر الرسول r في إرسال سفير إلى مكة ليعرض مطالب المسلمين على قريش، وكان عثمان بن عفان t الرجل المناسب في هذا المكان، ودخل عثمان مكة في إجارة أَبَانِ بن سعيد بن العاص الأموي، وعَرَض مطالبه أمام قريش التي سمعت منه، وعرضت عليه أن يقوم بالعمرة ويطوف بالبيت الحرام، إلا أنه قال لهم: لا أطوف حتى يطوف رسول الله r, وهنا تأكَّدت قريش أن الصفَّ المسلم قوِيٌّ صُلْبٌ، فبدأت تفكِّر في الصلح.
وفي أثناء انتظار عثمان بن عفان t أُشِيعَ أنه ما تأخَّر إلا لأنَّه قُتِل في مكة، وبمجرَّد أن علم بذلك النبيُّ r جمع المسلمين وبايعهم بيعة الشجرة أو بيعة الرضوان [126]، على ألاَّ يفرُّوا, وبايعوا جميعًا إلا المنافق الذي كان معهم [127].
وبعد هذه البيعة العظيمة مباشرة جاء عثمان بن عفان t سالمًا، وأخبرهم أنهم قد وافقوا على الصلح، وقد أتى سُهَيْل بن عمرو لإتمامه مع النبيِّ r، والذي ما إن رآه النبي r قادمًا حتى استبشر، وقال: " قَدْ سَهُلُ لَكُمْ أَمْرُكُمْ، أَرَادَ الْقَوْمُ الصُّلْحَ حِينَ بَعْثُوا هَذَا الرَّجُلَ" [128]. | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:32 | |
| شروط صلح الحديبية
وقد اصطلحوا على أن يرجع الرسول r وأصحابه من عامهم هذا، ويأتون في العام القادم بسلاح الراكب، ويُقيمون بها ثلاثًا، ولا تتعرَّض لهم قريش، وعلى وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين يأمن فيها الناس، ويَكُفُّ بعضهم عن بعض، وعلى حرِّيَّة الدخول في حلف النبي r أو حلف قريش، وأن القبيلة التي تنضمُّ لأي الفريقين تُعتبر جزءًا منه، أي أنَّ أي عدوان تتعرَّض له أيٌّ من القبائل يُعَدُّ عدوانًا على الفريق التابعة له، ويُعَدُّ نقضًا مبرمًا للاتفاقيَّة. وأيضًا على أنَّ مَن جاء قريشًا ممن مع محمد r لم يُرَدَّ إليه، ومن أتى محمدًا r من غير إذن وليِّه يرُدُّه إليهم [129].
والملاحَظُ أنَّ كلَّ بنود الاتفاقيَّة تصبُّ في صالح المسلمين، عدا الجزء الثاني من البند الأخير، والذي يعني أنَّ مَن يأتي من أهل مكة مسلمًا، سواء أكان هذا الإسلام قبل هذا الصلح أو بعده، فإن على المسلمين أن يردُّوه إلى أهله من الكافرين، وهذا قد يُعَرِّضُ هؤلاء المسلمين إلى أن يُعذَّبوا ويُفتنوا في دينهم، وبسبب ذلك رفض جُلُّ الصحابة y هذا الصلح؛ إذ لم يدركوا بعدُ باقي مزاياه، وقد بدت الآثار الحميدة لهذا الصلح في دخول خزاعة في حلف المسلمين، بينما دخلت قبيلة بني بكر في حلف قريش.
وبعد الصلح أمر الرسول r الصحابة بذبح الهَدْي ليتحلَّلوا من إحرامهم فلم يستجب أحد؛ إذ كان الصحابة يأمُلون في دخول مكة، وأن يعتمروا ويطوفوا بالبيت الحرام، وهنا تعامل الرسول r مع الموقف بمنتهى الحكمة، فلم يُعَنِّف الصحابة y؛ لأنه يعلم ما بهم ويُقَدِّر موقفهم جميعًا، وما كان منه إلا أن دخل خيمته حزينًا، فأشارت عليه أُمُّ المؤمنين أُمُّ سلمة -رضي الله عنها- بأن يخرج ولا يُكَلِّم أحدًا حتى ينحر ويحلق، فلما رأى الصحابة y ذلك قاموا جميعًا ولم يتخلَّف منهم أحد، وبدءوا في النحر، مستجيبين جميعهم [130].
وقد أكمل الرسول r الطريق إلى المدينة، وقبل أن يصل إلى هناك نزلت عليه سورة الفتح، يقول r: لَقَد أُنْزِلَت عليَّ سورة لَهِيَ أحبُّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس, ثم قرأ: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1], ولمَّا نزلت عليه نادى عمر t؛ لأنه كان أكثر الصحابة تَأَثُّرًا بهذا الحدث، وقرأها عليه، فقال عمر: يا رسول الله، أَوَ فتحٌ هو؟ قال r: " نَعَمْ" [131].
وبمجرَّد وصول الرسول r للمدينة جاءت بعض النساء المؤمنات من مكة المكرمة مهاجرات إلى المدينة المنورة، وكان هذا أوَّل قدوم للمسلمين من مكة المكرمة إلى المدينة بعد الصلح، فأسرعت قريش، وطلبت إعادة المؤمنات المهاجرات كما تقول المعاهدة، ولكن الرسول r رفض لأن المعاهدة تنصُّ على الرجال فقط، ونزلت سورة الممتحنة، واستقرَّ الوضع بداخل المدينة، وقَبِلَ المشركون بقضيَّة المؤمنات اللاتي هاجرن إليها.
أما أبو بصير الثقفي الذي كان يعيش في مكة، فقد أسلم بعد صلح الحديبية وهرب إلى المدينة المنورة، وفي هذا خرق للاتِّفاقيَّة، وعليه فبمجرَّد أن خرج من مكة أرسلتْ قريش وراءه رجلين إلى الرسول r، فأعاد أبا بصير مع الرجلين، وعند ذي الحُلَيْفَة -على مقربة من المدينة- تمكَّن أبو بصير من قتل أحد المشركين، وفرَّ المشرك الآخر إلى المدينة يستنجد برسول الله r، ولمَّا أحسَّ أبو بصير أن النبي r سيردُّه ثانية هرب خارج المدينة، وبدأ يهاجم القوافل المتجهة من مكة المكرمة إلى الشام، وعندما سمع بعض المسلمين المستضعفين في داخل مكة المكرمة وفي غيرها بما فعل أبو بصير بدءوا يأتون إليه، وبدأ أبو بصير t في تكوين مجموعة من الرجال تعترض طريق القوافل المكيَّة، فحدثت أزمة كبيرة في مكة، فأسرع أهل مكة إلى رسول الله r يناشدونه بالرحم أن يضمَّ أبا بصير إلى المدينة المنورة، وأنْ يُلغِي هذا البند من صلح الحديبية، وأنْ يَقْبَل المسلمين من مكة، ولا يُعيدهم إليها مرَّة أخرى، فمُحِي هذا البند من المعاهدة، وأصبحت المعاهدة خالصة لصالح المسلمين [132].
[122] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/270، وابن كثير: البداية والنهاية 4/188 وما بعدها.
[123] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/118، وابن كثير: البداية والنهاية 4/166، 174.
[124] الطبري: المصدر السابق 2/276، وابن كثير: المصدر السابق 4/190.
[125] ابن هشام: السيرة النبوية 2/313، 314.
[126] سُمِّيَتْ بذلك لأنها تمَّت تحت شجرة عند الحديبية، ولأن الله U صَرَّحَ بأنه رضي عن هؤلاء الذين قاموا بها، فقال تعالى: "لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا" (الفتح: 18).
[127] ابن هشام: السيرة النبوية 2/315، 316.
[128] البخاري عن المسور بن مخرمة: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (2581).
[129] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/281، وابن كثير: البداية والنهاية 4/192.
[130] الطبري: المصدر السابق 2/283، وابن كثير: المصدر السابق 4/200، 201.
[131] ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/105.
[132] الواقدي: المغازي ص624-630، والطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/284، 285، وابن كثير: البداية والنهاية 4/201 | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:33 | |
| شمس الإسلام تسطع على العالم
بعد ذلك سطع الإسلام في الجزيرة العربيَّة كلها، وبدأ صناديد مكة وزعماؤها يفكِّرون جِدِّيًّا في الإسلام، وكان من أوائل من أسلم بعد صلح الحديبية ثلاثة من أعظم قوَّاد مكة، وأصبحوا بعد ذلك من أعظم قواد المسلمين، وهم خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن أبي طلحة، كما بدأت المراسلات النبويَّة من رسول الله r إلى زعماء وقادة العالم في كل مكان؛ فراسل r كسرى فارس، وقيصر الروم، والمقوقس بمصر, وغيرهم يدعوهم إلى الإسلام.
ومع وحدة محتوى الرسائل التي أرسلها r إلى رؤساء العالم، إلا أن ردود الأفعال جاءت متباينة، فقد بلغ بعضها القمة في الأدب وحسن الردِّ، بينما بلغت بعض الردود الأخرى أدنى مستوًى لسوء الأدب والمعاداة، وبعضها بين هذا وذاك.
ومن هذا القبيل أنه عندما أرسل الرسول r رسالة إلى ملك الفُرس، مزَّقها وسبَّ الرسول r، الأمر الذي جعل الرسول r يدعو عليه؛ فيقول: " مَزَّقَ اللَّهُ مُلْكَهُ مِثْلَمَا مَزَّقَ الْكِتَابَ" [133]. فحدث ذلك في غضون سنوات قليلة جدًّا من هذه الأحداث، حيث مزَّق الله U مُلك كسرى، وامتلك المسلمون كلَّ الأراضي الفارسيَّة، وسقطت الإمبراطوريَّة الفارسيَّة تمامًا.
وعلى النقيض منه موقف هرقل ملك الروم؛ فإنه عندما تَسَلَّم رسالة الرسول r من دِحْيَةَ بن خليفة الكلبي قال له: والله إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل، وأنه الذي كنَّا ننتظره ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتَّبعته. وفي رواية أخرى أن هرقل استدعى الأسقفَّ الأكبر للرومان فدخل عليه، فعرض عليه هرقل الكتاب، فلما قرأ الأسقفُّ الكتاب قال: هو -والله- الذي بَشَّرَنَا به موسى وعيسى الذي كنا ننتظر. فقال له: فما تأمرني؟ قال الأسقفُّ: أمَّا أنا فإني مصدِّقه ومتَّبعه. فقال هرقل: أعرف أنه كذلك، ولكنى لا أستطيع أن أفعل، وإن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم. ثم اكتفى بأن حَمَّلَ دحية الكلبي ببعض الهدايا لرسول الله r [134].
ومثله كان ردُّ المقوقس ملك مصر، حيث أحسن استقبال الوفد الإسلامي وأكرمهم بالهدايا إلا أنه لم يُسْلِم [135].
أما صاحب اليمامة هوذة بن علي حين جاءه رسولُ رسولِ الله r فلم يرغب في الإسلام كدين، ولم يفكِّر أن يُسْلِمَ، ولكنَّه في نفس الوقت شعر بقوَّة الرسول r وتنبَّأَ لدولته بالتوسُّع والانتشار، وكان الرسول r قد قرَّر أن يُعْطِيَه ما تحت يديه من اليمامة إن أسلم، ولكن هوذة أراد أكثر من ذلك, وعلَّق إسلامه على أن يُعطيه الرسول r بعض الأمر، وهو ما رفضه الرسول r، ثم تنبَّأ له بالهلكة، وقال: " بَادَ، وَبَادَ مَا فِي يَدَيْهِ". وبالفعل تحقَّقت نبوءة الرسول الله r بعد أقلِّ من سنتين، حيث مات هوذة بن علي وفقد ملكه [136].
هذا، وبعد صلح الحديبية كان الرسول r قد أَمِن جانب قريش، ومن ثَمَّ انطلق إلى يهود خيبر أكبر التجمُّعات اليهوديَّة في الجزيرة العربيَّة الذين شغلوه r كثيرًا، وكان من أخطر مؤامراتهم محاولة جمع القبائل العربيَّة المختلفة لحرب المسلمين في غزوة الأحزاب، فخرج إليها r في المحرم من السنة السابعة للهجرة لفتحها | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:34 | |
| غزوة خيبر
وفي التجهيز للخروج أعلن r أنه لا يخرج إلى خيبر إلاَّ مَنْ شهد صلح الحديبية، وبذلك ضمن أنَّ كلَّ من سيشارك في فتح خيبر سيكون من المؤمنين وليس فيهم منافق، وخرج الرسول r بألف وأربعمائة مقاتل، هم الذين كانوا في صلح الحديبية.
وكان من صنيع المنافقين في هذه الغزوة أن أرسلوا إلى يهود خيبر يخبرونهم بقدوم الرسول r إليهم، بل يشجِّعونهم على قتاله r، وهو ما لاقى قَبُولاً واستحسانًا من اليهود، فأخذوا استعداداتهم وأرسلوا أَحَدَ زعمائهم وهو كنانة بن أبي الحُقَيْق، إلى قبائل غَطَفَان لكي يُساعدوهم ويُعاونوهم في حرب المسلمين، وعرضوا عليهم نصف ثمار خيبر [137]، وبالفعل بدأت قبائل غَطَفَان في التجهُّز للخروج في اتِّجاه خيبر، وأعدُّوا جيشًا كبيرًا.
ولمَّا اقترب الرسول r من خيبر اختار مكانًا وعسكر فيه، وأشار عليه الحُبَابُ بن المُنْذِر t بموضع آخر، فتحوَّل إلى حيثُ أشار الحُبَاب، وأعطى الراية يومئذٍ لعليِّ بن أبي طالب t، الذي وصفه r بأنه " رَجُلٌ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" [138].
ثم اقترب الجيش الإسلامي من حصون خيبر، والتي بدأت تتساقط، الواحد تلو الآخر، حتى سقطت جميعها، وطلب اليهود الصلح، فتمَّ على حقن دمائهم، ودماء كلِّ من في الحصون من المقاتِلَة والذُّرِّيَّة والنساء على أن يَتْرُكوا خلفهم الديار والسلاح والأموال، ويخرجوا فقط بملابسهم في أكبر هزيمة من هزائم اليهود مطلقًا.
وبعد هذا القتال المرير فكَّر اليهود في قتل الرسول r قبل أن يُغَادِر خيبر، فاجتمعوا ووضعوا له السُّمَّ في شاة، ثم أعطوها لامرأة لتُعطيها لرسول الله r، وهو ما عَلِمَه الرسول r عن طريق الوحي، فلم يأكل منها وأمر أصحابه ألا يأكلوا، إلا أنَّ بِشْرَ بن البراء بن معرور t أحد الصحابة كان قد أكل من تلك الشاه فمات بها [139]، وهو ما جعل رسول الله r يُقِيم الحدَّ على المرأة التي قدَّمت الشاة فقتلها به، وهي حالة القتل الوحيدة التي حدثت في خيبر.
وكان من أهمِّ نتائج فتح خيبر أنه عندما سمع اليهود في أماكن أخرى بأنبائها بدءوا يفكِّرون في التسليم لرسول الله r، ومنهم يهود فَدَكٍ الذين قَبِلُوا أن ينزلوا على نفس ما نزلت عليه يهود خيبر، وهو أن يكون لهم النصف من الثمار، وكذلك اليهود في وادي القرى، ويهود تيماء، وبذلك حيَّد المسلمون جانب اليهود تمامًا في الجزيرة العربيَّة. ورجع الرسول r بعد هذه الغزوة إلى المدينة المنوَّرة في أواخر صفر أو أوائل ربيع أول من السنة السابعة للهجرة، أي أنه ظلَّ أكثر من شهر في منطقة خيبر، وبذلك تخلَّص المسلمون نهائيًّا من خطر اليهود [140]. | |
|
| |
العميل007 عضو أساسي
الجنس : المشاركات : 6271 نقاط التميز : 5308 تاريخ التسجيل : 08/05/2009
| موضوع: رد: السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها الأحد 24 مايو - 22:34 | |
| غزوة ذات الرِّقَاع
إذا أضفنا إلى ذلك ما حدث في صلح الحديبية من تحييد جانب قريش نجد أن معظم القوى الموجودة في الجزيرة قد تعامل معها r, ولم يَبْقَ من قوَّة في الجزيرة إلا قوَّة غَطَفَان، والتي وإن وَجَّهَ إليها الرسول r بعض السرايا إلا أنها تحتاج هي الأخرى إلى وقفة جادَّة وتصرُّفٍ حكيم وسريع منه r.
وفي هذه الأثناء تزايدت أعداد المسلمين في المدينة المنوَّرة، وقد انضمَّ إليهم عدد من المسلمين في أماكنَ مختلفة من الجزيرة العربيَّة، وجاء جعفر بن أبي طالب t والمهاجرون من الحبشة، وقدم الأشعريون وعلى رأسهم أبو موسى الأشعري t من اليمن، كما قدم الدَّوْسِيُّون، وهم قبائل كبيرة من اليمن، وعلى رأسهم الطُّفَيْلُ بن عمرو الدِّوْسي t، بل إنَّ المسلمين قدموا أيضًا من مكة المكرمة ذاتها بعد أن تنازلت قريش عن بند إعادة المسلمين المهاجرين من مكة إلى المدينة بعد الحرب التي شنَّها عليهم أبو بَصِير وأصحابه y [141].
وكان الهدف بعد ذلك إيقاف خطورة غَطَفَان، والتي خرج الرسول r لمواجهتها والحدِّ من خطورتها، وذلك في غزوة ذات الرِّقَاع في شهر ربيع الأول من السنة السابعة للهجرة، أي بمجرَّد أن عاد المسلمون من فتح خيبر.
كان جيش المسلمين صغيرًا نسبيًّا، حتى إنَّ الستَّة من الصحابة كانوا يتناوبون ركوب البعير الواحد، وسار بهم الرسول r مسافة كبيرة في عمق الصحراء حتى بلغ ديار غَطَفَان، وكانت المفاجأة أنه لم يَدُرْ قتالٌ، فقد آثر أهل غَطَفَان ألاَّ يدخلوا في صراع مع المسلمين، حيث قذف الله في قلوبهم الرعب، وعاد المسلمون منتصرين [142].
وفي طريق العودة اشتدَّ الحرُّ على المسلمين، وجاء وقت القيلولة فنزلوا في وادٍ كثير الأشجار، وتفرَّق المسلمون يستظلُّون فيه، ونام الرسول r تحت شجرة وعلَّق سيفه بها، فإذا بأعرابي كافر يأتي فيأخذ السيف، فشعر به الرسول فاستيقظ من نومه، فقال الأعرابي: مَن يمنعك مني؟ فقال رسول الله r: " اللَّهُ". وإذا بالأعرابي يرتعد، ويَسقط السيفُ من يده، ليأخذه النبي r ثم يعفو عن الأعرابي ويتركه [143]. | |
|
| |
| السيرة النبوية الكاملة ولن تجد مثلها | |
|