العقل والوحي
الكاتب: عبدالإله بلقزيز
في ثقافات انسانية كثيرة، وعلى امتداد حقب التاريخ قامت بين العقل والدين علاقة من التضاد منع فيها أي شكل من أشكال التجاور فكيف بالتواصل أو التكامل بينهماّ! ونشأ - نتيجة ذلك- اعتقاد في أن الواحد منهما لا يقوم إلا بهدم الآخر ومحوه.
هذه حضارة اليونان القديمة لم ينشأ فيها اللوغوس (العقل) إلا كهدم معرفي لـ(الميثوس) الاسطورة الدينية إذ كان على الفلسفة ان تبني لنفسها نظاما من المعرفة خاصا بها يقطع مع التقليد الديني الممتزج بالأسطورة. والأمر في هذا لا يتعلق بالمشروع الفلسفي الذي ارسى التصور المادي للعالم في صيغه الثلاث الشهيرة، الأيونية الطبيعية والذرية ثم الأرسطية مع طاليس وأنا كسمنس وأناكسمندر وديمقريطس وهيراقليطس وارسطو بل حتى بالمشروع الفلسفي الأفلاطوني الموغل في النزر الميتافيزقي الذي لا يختلف تصوره الانطولوجي عن التصورات الدينية الرائجة. وهذا ما يقيم الدليل على ان الفلسفة اختارت التميز والاستقلال لنفسها في نظم المعرفة وفي جهاز المفاهيم حتى وهي تتقاطع مع الدين في مضمونها المعرفي.
وهذه ثقافة أوروبا الحديثة تكرر ما ارسته جدتها الاغريقية.
بناء نسق معرفي على الضد من النسق الديني بل فتح الحرب على الكنيسة بواسطة المنظومة الفلسفية العقلانية أو التجريبية الحديثة، وممارسة عملية محو واسعة النطاق للتراث المسيحي في أوروبا والعودة بدلا من ذلك الى التراث الفلسفي الاغريقي لاتخاذه نقطة مرجعية والبناء عليه.
غير ان هذه العلاقة من التنابذ والتضاد بين الفلسفة والدين لم تكن قانونا عاما تسري في كل الحضارات والثقافات إذ احتضنت بعضها أشكالا متباينة ومتنوعة من التجاوز والمصالحة بين الفلسفة والدين على نحو ما تعبر عن ذلك الثقافات المشرقية القديمة ومنها الثقافة العربية الاسلامية الوسيطة بل ان بعضها وهذا حال ثقافتنا تلك لم يكن أمامه سوى ان يقيم مثل تلك المصالحة لأسباب تاريخية وعقائدية.
ان مشروع (بيت المحكمة) الذي أطلقه الخليفة المأمون يعبر عن واحدة من لحظات المصالحة بين العقل والدين في تاريخ الاسلام. وذلك انه ترجم الحاجة الى مطلبين: الى استعارة النظم العقلية لحضارات أخرى خاصة الاغريقية وتبيئتها في الثقافة الاسلامية من خلال ترجمتها الى اللغة العربية ثم الحاجة الى مد الاسلام دولة وعقيدة بالسلاح الأمضى في مواجهة خصومه: العقل ولقد كان من شأن هذا المشروع التاريخي الكبير الذي أخذ هيئته المؤسسية في (بيت المحكمة) ان يوجد نتائجه الفكرية الضخمة في النسيج التاريخي اللاحق للثقافة الاسلامية.
إذ كرس تقاليد التجاوز والتداخل البناء بين العقل والدين في الثقافة اياها وأتاح إمكانية هائلة للاجتهاد والابداع والانفتاح أمدت تلك الثقافة طويلا بأسباب التطور. ولعل الانتاج العقلي الاسلامي في علم الكلام والفلسفة مثال بين لذلك.
ففي علم الكلام وهو علم الدفاع عن العقائد الايمانية بالأدلة العقلية على ما عرفه به ابن خلدون كان مطلوبا من الوعي الاسلامي ان يؤسس وعيا عقلانيا بالوحي يواجه به القراءات النصية السطحية التي اكتفت بظاهر النصوص وأوقعت أفهام الناس في ارباكات حمل عليها ما في ذلك الظاهر من معان متباينة ومتعارضة.
وكان على المعتزلة بخاصة ان يقوموا بأداء هذه المهمة على النحو الذي يقطع السبيل على (الدس) الغنوصي والباطني، أو على التشكيل في نظام الوحي. وهم استفادوا في ذلك من الدعم السياسي الواضح الذي تلقوه من المأمون وسواه من الخلفاء ممن حولوا الاعتزال الى ايديولوجية رسمية للدولة.
وعلى النحو نفسه نهضت الفلسفة الاسلامية تاريخيا في تكريس النظرة العقلانية الى الوجود والى الاسلام متسلحة بالمنطق وبالمنظمة الفكرية الاغريقية لكنها أكثر من ذلك عبرت عن نفس قوي لاحداث المصالحة والتجاوز بين الفلسفة والدين وهناك لحظتان على الاقل في تاريخ الاسلام الوسيط تعبران عن هذا المنحى التوفيقي بين منظومة العقل ومنظومة الوحي هما: اللحظة الفارابية –السينوية واللحظة الرشدية.
تمثل (نظرية الفيض) لدى كل من أبي ناصر الفارابي وابن سينا محاولة فلسفية في التوفيق بين الانطولوجيا اليونانية ثم الانطولوجيا الأفلوطينية الاسكندرانية وبين التصور الاسلامي للوجود ولا شك ان هذا التوفيق كان ضربا من الاستحالة كما أدرك ذلك جيدا الامام أبي حامد الغزالي في (تهافت الفلاسفة) بسبب التعارض التام بين الانطولوجيا الأولى التي تقوم على جوهر مادي قوامه ان لا شيء من لا شيء والذي يعني ان العالم صدر عن مادة وبين التصور الاسلامي للوجود الذي يقر بأن العالم صدر عن عدم محض مطلقا، أي عن أمر الهي بالكينونية (كن فيكون) ومع ذلك فقد غامر الفارابي وابن سينا في الذهاب بتحقيق المصالحة بين المنظومتين بين المنظومتين الى حدودها القصوى وهي مغامرة سوف تكلف الفلسفة كثيرا في ما بعد، وخصوصا بعد ان واجهها الغزالي ذو السلطة الدينية والفقهية النافذة بالتحريم وواجه متعاطيها من الفلاسفة بالتكفير.
أما أبو الوليد بن رشد فقد كان عليه ان يعمل في وضع صعب تحت وطأة سريان مفعول فتوى التحريم والتكفير الغزالية ولما كان يحمل معه مشروعا ارسطيا للثقافة الاسلامية فقد حاول ان يتجنب ميدان الانطولوجيا ليبحث عن الجامع المعرفي بين الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية. وقد نجح في استخدام الاستدلال المنطقي الارسطي للدفاع عن المحكمة لـ(الفلسفة) والبحث لها عن شرعية من داخل الاسلام، وهذا جوهر كتابه العميق (فصل المقال في ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال) على انه إذ كان الشرع في ما رأي ابن رشد قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات فالمستفاد من ذلك ان العلاقة بين الشريعة والحكمة بين الدين والفلسفة علاقة توافق وهذا هو ما عبر عنه حين اعتبر الحكمة للشريعة بمثابة (الأخت الرضيعة) .
لكن هذا التراث الاسلامي من التوفيق بين العقل والوحي يطرح سؤالا لدى كثير من المتشككين في الفلسفة ألم يكن ذلك نوعا من الدس في الاسلام هدفه التخريب من الداخل باستعمال الفلسفة؟
والحق انه ليس في حوزة المناهضين للفلسفة الاسلامية دليل واحد على انها مست بمسلمات الاسلام وهو ما ينطبق على كل العقلانية الاسلامية سواء في الكلام أو غيره بل ان هذه العقلانية كانت في جوهرها اسلامية، أي تحركت الفاعلية المعرفية للعقل فيها على قاعدة الوحي وعلى قاعدة الحقيقة الدينية. فمبدأ التوحيد مثلا (هو أصل من الأصول الخمسة في الكلام المعتزلي) لم يبن في الخطاب الكلامي على تساؤل فلسفي حول ما إذا كان الله واحدا بل قام على فكرة التسليم بوحدانية الله من دون جدل، أما الفعالية العقلية فاقتصرت على اقامة الدليل العقلي على تلك الوحدانية وهو الشيء نفسه الذي يقال على مبدأ العدل الاصل الثاني في الكلام المعتزلي. أما الفلسفة فقد ورثت من علم الكلام هذه القاعدة إذ استمر تدخلها العقلاني في المجال الديني خاصة مع ابن باجة وابن طفيل وابن رشد منحصرا في تبرير الحقيقة الدينية منطقيا وفلسفيا لا في مساءلتها.
وعلى ذلك يجوز الاستنتاج في معرض هذا الحديث عن جذور نزعة المصالحة بين العقل والدين في الوعي العربي والاسلامي ان العقل في الثقافة الاسلامية ليس عقلا بنائيا بل هو عقل استدلالي، ومعنى ذلك انه لا يبحث عن الحقيقة – شأن سابقه الاغريقي – بل يعترف بالحقيقة الدينية سلفا كي يقيم الدليل الفلسفي والمنطقي عليها، مما يسوغ معه الاعتقاد في ان العقل في الاسلام محدود بحدود الوحي.