وقد شعر بلذّة لا متناهية، لا يعرفها إلاّ الخبير الدَّرب، والذواقة المدمن، فدبَّ نشاط جديد، وروح عافية في عروقه، استعداداً ليوم معتاد من آلاف الأيام التي عاشها في بلدته الصغيرة، اللاطئة على خاصرة الفرات، يوم يتراكم مثل قطعة نقدية في حصالة طفل حالم بألعاب، وهدايا، وأنهار، وألوان لم يعرفها قوس قزح.
وضع فنجانه الفارغ على طاولة أمامه، إلى جانب تمثال صغير، نصفي من النحاس المعتق "الإيبوقراط"، وحين نهض، بدت قامته المديدة في الصالون الأنيق، الذي أشرفت على ترتيبه يد عارفة وخبيرة بأساليب المدن، وقد شابها انحناء واضح في تقارب الكتفين، وانحناء الظهر، لم يقلل من رشاقتها الرياضيّة، بينما شعره السبط يسترسل، وقد تدلت خصلة جثلة على الجبين منه.
الصالون واسع، توزعت على جدرانه لوحات مختارة بذوق فنان، عارف وبصير، منها العالمي الذي جلبه معه، خلال أسفاره الكثيرة، ويغلب عليه الطابع الأندلسي الذي أغرم به، لأن فيه.. كما يزعم ـ رائحة الأجداد الذين بادوا، ومنها المحلي الذي اقتناه من المعارض النادرة في دمشق وبيروت.
خطا نحو الباب.
فامتلأ صدره وخياشيمه برائحة الصباح، وحين فتح الباب الخارجي، ونزل الدرجات القليلة إلى الشارع، تغيّر كل شيء، المناظر، والأحاسيس، والناس، وكأن حاجزاً رقيقاً يفصل بين عالمين أو كونين مختلفين، بيوت شائهة من الفخار والطين، وأزقة فرعية ملتوية، ووجوه صفراء، امتّصها الجوع والخوف وسنوات القهر.
ـ مرحباً حكيم.
حيّاه أحد الجوار العابرين.. فردّ:
ـ أهلاً.
الشارع أو الزقاق ـ لا فرق ـ يستقيم هنا، وقد لمسته يد العناية، لقربه من السوق فاصطفت على جانبيه الدكاكين، بينما استقرّت دائرة الريجي فيه، ممّا أعطاه امتيازاً ومكانة، وفي زاوية منه يلوذ مشرب صغير لتقديم المشروبات الروحية، أطلق عليه الناس "وادي جهنم" لرداءة مشروباته، يؤمّه حثالات السكارى من عتالين وعمال مياومين ومتبطلين، حيث تقوم داخله مراهنات عجيبة على الشراب، انتهت في بعض الأحيان نهايات مأساوية، فتلك الجلود الضاربة إلى الخضرة كجلود الضفادع، والعيون الحمر المطفأة والأيدي التي لم تعرف غير السكاكين "الكندرجية"،
أو السكائر الملفوفة، والأقداح، لا يمكن النظر إليها بحياد أو طمأنينة، فقد كانت تقوم بينهم وبين صاحبها الآشوري "آدم" مشاحنات حول الحساب، وعدد البطحات.. خاصة مع العجوز جاسم، فتدور الحوارية المألوفة:
ـ جاسم يا حبيبي، شربت بطحتين وهذه الثالثة.
ـ لا.. لا.. أبداً، بطحة واحدة... بطحة..
ـ جاسم...
ـ اسمع آدم.. براس نبيك محمد .. بطحة واحدة.
ـ يا حبيبي... بربك هذا كلام بطحة واحدة يا رجل؟! قل عشر بطحات.
ـ أنا سكران يا آدم؟
ـ أنت طينة يا حبيب آدم...
وفي البدايات كان الدكتور عبد الله يقطع المسافة بالسيارة، ليظلّ محافظاً على مشاعره الأثيرة، التي خرج بها من المنزل، ولكنه أدرك فيما بعد مبلغ خطر ذلك على مشاعر الناس، وعلى مهنته، فكفّ عن ذلك، ليظل بينهم وقريباً منهم.
ـ الحكيم قادم.
أصوات هامسة من عجائز وشابّات تعلقت أنظارهن بقدمه اليمنى التي ينقلها برزانة وثقة، وقد شاب مشيته عرج خفيف لا يدركه إلا المدقق الخبير.
ـ الحكيم وصل.
قالت عجوز باهتمام فرّدت كنتها الشابّة:
ـ حكيمك يختال مثل الحصان.
ـ لكنه حصان أصيل، وله لسن يطلع الحيّة من الغار.
ـ نشوف.