لماذا يدمن الناس مشاهدة المسلسلات التلفزيونية؟
وكيف يمكن لحقة من مسلسل ما أن تجعل الناس يتعلقون به ويضبطون إيقاع حياتهم بما يتناسب وتوقيته؟
هل يمكن السر في المسلسلات ومدى أهميتها أم في الناس أنفسهم؟
بعدما أصبحت بمثابة آفة لا تفرق بين كبير وصغير
حين تتحول العلاقة بالمسلسلات التلفزيونية إلى شكل من أشكال الإدمان، يصبح المسلسل محور حياتنا، وجامع شملنا، وحديث يومنا الذي لا تخلو أي جملة منه من تفاصيل العمل الدرامي. تأسيسا على ذلك، من هم عشاق المسلسلات ومدمنوها؟ وهل المسلسل الدرامي هو بمثابة سلم هروب من واقع مرفوض إلى حياة افتراضية؟ أم ماذا؟
عشق وإدمان "عشاق الحكايات هم أنفسهم عشاق المسلسلات"، بهذه الكلمات، تعلق رندا ميخائيل اسحق (موظفة مبيعات) على موضوع التحقيق، مشيرة إلى أن من غير الممكن أن ينجو مشاهد المسلسل العربي من ورطة إدمان مسلسل ما، خاصة حين يروي حكاية تضرب على الوتر الحساس، كأن يسرد قصة حب، أو عائلة تعج أخبارها بالتفاصيل والحكايات.
تردد
تستغرق رحاب محفوظ (مرشدة سياحية) بعض الوقت لتعطي رأيها في الموضوع، وكأن الاعتراف بإدمان المسلسلات العربية "تهمة أو عيب" كما توضح لاحقا.
"بصراحة أنا لا أحب المسلسلات"، تقول رحاب، لكنها لاتتلبث أن تعود لتعتلف بأنها تتابع 3 مسلسلات في اليوم. وتبرر التناقض في موقفها متسائلة: "من منا لا يحب أن يشاهد عملا دراميا يملأ عليه حياته؟". وبينما تمضي في الحديث عن علاقتها بالمسلسلات، تؤكد أنها تسمع الكثير من الانتقادات التي تطول متابعتها ولهفتها للمسلسلات، وكأن أصحاب (العقول الفارغة) هم وحدهم الذين يدمنونها.
وتتابع الحديث عن طريقة تعاطيها المسلسلات التلفزيونية، تقول: "منذ أن يبدأ عرض مسلسل ما، أقوم بتنظيم وقتي وفقا لتوقيت عرضه، كما أنني أكتب مواعيد المسلسلات بطريقة تمكنني من متابعتها كلها، خاصة في شهر رمضان".
سهام على: أنهي واجباتي المنزلية وأتفرغ للمسلسل الذي أحب.
أماني محمد: الأعمال الدرامية تعظ وتعطي عبر للناس.
ليست تبتعد أماني محمد (موظفة حكومية) عن الإسقاطات الشخصية التي يقوم بها المشاهد على أحداث المسلسل، تقول: لا نتابع المسلسل لأننا نبحث عن أنفسنا فيه، بل لرغبتنا في اكتشاف ما لا نعرفه عن الغير، وهذا ما يفسر اهتمام الناس بالمسلسلات التركية في الآونة الأخيرة"، مشيرة إلى أن "البحث عن التجديد أمر مثير في حياتنا، وهذا ما يجعلنا نترقبه، ونتابعه بشغف المسافر إلى بلد لا يعرف عن تفاصيله شيئا".
هل تعتبرين نفسك مدمنة مسلسلات؟ تجيب: "يكفيني إدمان بناتي الدراما بناتي الدراما بكل أنواعها، فهن يراقبن التفاصيل، ويتابعن تسلسل الأحداث باهتمام جدي وكأن حكاية المسلسل تحدث مع واحدة منهن، وينتهي المطاف بفتح نقاشات تتعلق بموضوع المسلسل".
أماني، التي تؤكد أنها لم تقع في فخ المسلسلات، تعتبر أن "الأعمال الدرامية ليست ثرثرة بثرثرة، فهناك ردود فعل تأتي عقب كل مسلسل، بحيث يتعلم الناس ويتعظون، خاصة حين تتكلم تلك المسلسلات عن جيل فاشل أو عن تربية غير صحية".
تفرغ كامل
"إذا كان الدليل على إدمان المسلسلات يعني مشاهدة 3 مسلسلات في اليوم، فنعم أنا مدمنة". هكذا تعبر سهام على (ربة منزل) عن وجهة نظرها في موضوع إدمان مشاهدة المسلسلات. فالمسلسل كما تقول: "يأخذنا إلى عالم جميل، يمزج بين الخيال والواقع، ملبيا اتجاهات كل المشاهدين".
مشيرة إلى أن "طبيعة المشاهدين وأعمارهم تتحكم في الأعمال التي يتابعونها، ولهذا نرى أن المسلسلات الاجتماعية تكون من تخصص النساء، في حين أن الرجال يهوون المسلسلات التاريخية، أما الشباب فيتابعون أفلام الأكشن".
حكواتي
يكتب موسى عزالدين (موظف) اسمه في سجل المتابعين الشغوفين للمسلسلات التلفزيونية، حيث يجد في تلك الأعمال "فنا يستعرض ثقافات مختلفة وحكايات من الزمن الجميل" كما يقول، مؤكد أن "هناك أعمالا تقدم عبرا من خلال سيناريوهات محبوكة جيدا، وأخرى تستعيد التاريخ بحقبه المختلفة، وتجعلنا نقارن بينه وبين الحاضر بكل جوانبه". وبينما يمضي موسى في كلامه، لافتا إلى أنه يستغرب موقف الذين يسيؤون تقييم المسلسلات، فيحطون من قيمتها الفنية والإخراجية والنصية، عدا عن أنها يطلقون على متابعيها صفات لاذعة مثل: "التفاهة"، و"صغر العقل"، و"الوقت الفاضي". يفسر سر عشقه المسلسلات بنوعيها البدوية والشعبية، فيقول: "تؤدي تلك الأعمال دور الراوي أو الحكواتي الذي ينقلنا إلى أيام الشهامة والمروءة والحب الحقيقي، ليس من خلال الكلام فحسب، بل من خلال الصور الجميلة"، مؤكدا أن "تقنية العمل الدرامي صارت عالية المستوى بعد أن توقف صناع المسلسلات عن استغباء المشاهد والتلاعب بعقله".
طقوس
لا يأتي اعتراف سليم داغر بإدمان المسلسلات التلفزيونية مترددا أو خجولا فـ "ما من عيب في متابعة الرجل أعمالا درامية تمتعه وتسليه" حسب قوله، حيث إنه يشير إلى أن "حادة الرجل من الضغط اليومي تفوق حاجة المرأة، وهذا ما يبرر له تعلقه يشارك سليم زوجته حب المسلسلات، وهو إذ يتحدث عن طقوسه التلفزيونية اليومية، يقول: "تقوم زوجتي بتحضير العشاء اللذيذ الذي يتناسب مع متعة المشاهدة الدرامية، فمن غير الممكن أن يكون الجلوس أمام الشاشة الفضية جافا أو ناشفا"، موضحا أن "متابعة المسلسل لا تنقضي ببعض الوقت، فهناك مسلسل وراء مسلسل، وتعليق وراء تعليق". يضيف: "لا ينتهي المسلسل بانتهاء الحلقة، فوقت النقاش يبدأ في تلك اللحظات، وتحين ساعة التفاعل، حيث أدخل أنا وزوجتي في حديث طويل عن توقعاتنا وترقباتنا للتسلسل الدرامي للأحداث".
ويمضي سليم في وصف علاقته بالمسلسل التلفزيوني، فيقول: "ينقسم المشاهد للأعمال الدرامية بين من يبحث عمن يشبهه، وبين من يريد أن يعوض ما يفتقده". يضيف: يشعر الفقير بنشوة وهو يتابع مسلسلا عن الأثرياء الذين يعيشون في قصور فاخرة. كما أن المشاهد الذي يتابع مسلسلا يتكلم لهجة ويعكس طبيعة بلاده يشعر بنشوة عارمة".
فريق مسلسل
من باب التبرير، يعترف أسعد العلي (تاجر) بأنه لا يبحث عن مسلسل بعينه ليشاهده، بل ينضم إلى عائلته في غرفة التلفزيون ليكون فردا من فريق المتابع للمسلسل المعروض. ويقول: "لست من هواة التقليب بين الفضائيات للبحث عن عمل درامي، فالمسلسل ذائع الصيت هو الذي يفرض نفسه علي في النهاية، كما حدث مع مسلسل (نور)".
وإذ ينفي أسعد أن يكون التعلق بالمسلسلات عادة ذكورية، لأن المرأة هي المرشح الأول لإدمانها المسلسلات لكونها تعتبر مخلوقا عاطفيا شديد الحساسية"، يشدد على أن "تأثر الرجل تابع للعمل الدرامي، لا يقارن بتأثر المرأة التي تبكي وتنفعل وتفكر طوال النهار بأحداث مسلسل الليلة الماضية". بتابع: "ينفك الرجل من خيوط المسلسل بعد انتهاء الحلقة، بينما تبقى المرأة أسيرة ما رأته وسمعته وبكت عليه إلى أن تقع في غرام مسلسل آخر".
ولا مرة
على الرغم من أنه لا يمكننا الحديث عن المسلسلات التلفزيونية بمعزل عن المرأة إلا أن موقف إيمان عبد الوهاب (سيدة أعمال) يجعلها كمن تحلق خارج السرب تماما.
"ألا يكفينا الهم والنكد الذي نعيش، لنختار بأنفسنا مسلسلات تبكينا وتحرق أعصابنا؟".
تتساءل إيمان، مبررة موقفها السلبي من المسلسلات التي تصفها بأنها "وصفة مجانية تسبب إدمان الوجع والمرارة والإحساس بأننا دمى في أيدي صانعي المسلسل".
ضحك على العقول
في الوقت الذي يعترف فيه بعض الرجال بإدمانهم المسلسلات العربية، يأتي صوت محمد سلام (مهندس كمبيوتر) ليقسم أنه لم يتابع مسلسلا واحدا في حياته، لأنه وببساطة شديدة لا يملك وقتا ينفته في هذا الذي يصفه بأنه "كلام فاضي".
يجد محمد الجلوس أمام التلفزيون "هدرا للوقت من الدرجة الأولى"، وهو يؤكد أن "هناك عشرات البدائل التي في إمكانها أن تحل محل المسلسل اليومي في حياة الناس، فمتابعة برنامج ترفهي أهم من متابعة مسلسل نعرف سلفا أنه يضحك على عقولنا". يضيف: "لم أضعف يوما أمام إغراء الحديث عن مسلسل ما، فلست من النوع الذي يلحق موضة تلفزيونية مثل ما وحدث مع مسلسلي (باب الحارة) و(نور)، فعدوى المسلسلات لا تصل إلى حتى ولو أصابت نصف الكرة الأرضية.
فخ
على الرغم من اعتقاد ياسر العلي (مدير مشروعات) بأن "المسلسلات التلفزيونية تحرر المزاج من ثقل اليوم ومشاغله"، إلا أنه يرفض تسليم نفسه لتلك العادة التي يصفها بـ "السوسة"، فالمسلسل على حد قوله "شيء طفيلي يأخذ من وقتنا وأعصابنا، ويستهلك مشاعرنا التي تتأثر بسياق الأحداث العاطفية".ويتابع: "يقع المشاهد العاطفي في فخ المسلسلات أكثر من غيره، لأنه سهل التعلق بحكايات الحب والفراق التي هي مجمل محاور مسلسلاتنا". مشيرا إلى أن "المرأة هي الأكثر عرضه للإدمان على الأعمال الدرامية، لكونها مخلوقا عاطفيا يبكي أمام مشهد وداع بسيط".
أما محمد، الذي يطلق على المسلسلات الإجتماعية تسمية "مسلسلات كلهم من الجنس اللطيف، لأن الرجل لن يتابع حكاية فلان الذي يبحث في بلاد السند والهند عن فلانة"، موضحا أنه في حال أراد إراحة نفسه من تعب النهار، فلن يقع خياره على مسلسل عربي إنما على فيلم أجنبي، لافتا إلى أن "الأفلام الأميركية تملأ الفضائيات".
الطبيبة النفسية عبلة مرجان:
1- ما طبيعة العلاقة بين المشاهد العربي والمسلسلات؟
- يشكل المسلسل التلفزيوني نافذة المشاهد على المجتمع الخارجي والداخلي، فمرة تأتي صورته مطابقة ومتوحدة مع العمل الدرامي، ومرة تكون غريبة عن مجتمعه وثقافته، لكن الصورتين تلبيان الحاجة العاطفية والنفسية اللتين تدفعان بالمشاهد إلى التعلق بالمسلسل إلى حد الإدمان.
2- كيف يؤثر المسلسل الدرامي في المشاهد؟
- يفرغ العمل الدرامي الطاقة والشحنات التي يمتلكها عشاق المسلسلات، فيشعرون بأن هناك أناسا مثلهم في عالم ما وبيئة ما، الأمر الذي يخفف مرارة الواقع الذي يرزحون تحته، فيتجاوز المسلسل حد الإعجاب العادي حين ينقل إلى المشاهد حوافز وعبرا تخلق حالة من التوحد الكامل بين نجوم العمل التلفزيوني وأبطال الحياة الحقيقيين. هناك الدور الترويجي الذي تلعبه بعض المسلسلات حين تنقل إلى المشاهد عادات ونماذج تشقق طريقها بسهولة إلى داخله.
3- لماذا يدمن الناس المسلسلات العربية؟
- إن افتقار المجتمعات العربية إلى ثقافة الستغلال الوقت، يجعل من المشاهد العربي مجرد متلق يسجن نفسه في قفص الشاشة الفضيلة، على العكس من المواطن الغربي الذي يوزع وقته بين أنشطة ثقافية وفنية وأدبية ورياضية. إلى ذلك، نرى أن الأزواج التعساء يدمنون المسلسلات العاطفية، ويتوحد المراهقون مع المسلسلات التي تحكي عن الجريمة والمخدرات والإدمان، ليكون العمل الدرامي بالفعل بمثابة الحاجة التعويضية التي يبحث عنها المشاهدون كل بحسب ظرفه وسنه".