المرحلة الثانية ( الدعوة جهاراً ) - إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وخلال هذا الجو الملبد بسحائب الظلم والطغيان أضاء برق آخر أشد بريقاً وإضاءة من الأول ، ألا وهو عمر بن الخطاب ، أسلم في ذي الحجة سنة ست من النبوة بعد ثلاثة أيام من إسلام حمزة رضي الله عنه . وكان النبي قد دعا الله تعالى لإسلامه ، فقد أخرج الترمذي عن ابن عمر ، وصححه ، وأخرجه الطبراني عن ابن مسعود وأنس أن النبي قال : اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك : بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام فكان أحبهما إلى الله عمر رضي الله عنه .
وبعد إدارة النظر في جميع الروايات التي رويت في إسلامه يبدو أن نزول الإسلام في قلبه كان تدريجاً ، ولكن قبل أن نسوق خلاصتها نرى أن نشير إلى ما كان يتمتع به رضي الله عنه من العواطف والمشاعر .
كان رضي الله عنه معروفاً بحدة الطبع وقوة الشكيمة ، وطالما لقي المسلمون منه ألوان الأذى ، والظاهر أنه كانت تصطرع في نفسه مشاعر متناقضة ، احترامه للتقاليد التي سنها الآباء والأجداد ، واسترساله مع شهوات السكر واللهو التي ألفها ، ثم إعجابه بصلابة المسلمين واحتمالهم البلاء في سبيل عقيدتهم ، ثم الشكوك التي كانت تساوره _ كأي عاقل _ في أن ما يدعو إليه الإسلام قد يكون أجل وأزكى من غيره ، ولهذا ما إن يثور حتى يخور . قاله محمد الغزالي .
وخلاصة الروايات مع الجمع بينها في إسلامه رضي الله عنه أنه ألتجأ ليلة إلى المبيت خارج بيته ، فجاء إلى الحرم ، ودخل الكعبة ، والنبي قائم يصلي وقد استفتح سورة (( الحاقة )) فجعل عمر يستمع إلى القرآن ويعجب من تأليفه ، قال : فقلت _ أي في نفسي هذا والله شاعر كما قالت قريش ، قال : فقرأ إنه لقول رسول كريم ، وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون قال : قلت : كاهن ، قال : ولا بقول كاهن . قليلاً ما تذكرون تنزيل من رب العالمين إلى آخر السورة .قال فوقع الإسلام في قلبي .. كان هذا أول وقوع نواة الإسلام في قلبه ، لكن كانت قشرة النزعات الجاهلية والعصبية التقليدية ، والتعاظم بدين الآباء هي غالبة على مخ الحقيقة التي كان يتهمس بها قلبه ، فبقي مجداً في عمله ضد الإسلام ، غير مكترث بالشعور الذي يكمن وراء هذه القشرة .
وكان من حدة طبعه وفرط عداوته لرسول الله أنه خرج يوماً متوشحاً سيفه يريد القضاء على النبي فلقيه نعيم بن عبد الله النحام العدوي أو رجل من بني زهرة أو رجل من بني مخزوم فقال : أين تعمد يا عمر ؟ قال : أريد أن أقتل محمداً قال : كيف تأمن من بني هاشم ومن بني زهرة وقد قتلت محمداً ؟ فقال له عمر : ما أراك إلا قد صبوت وتركت دينك الذي كنت عليه قال أفلا أدلك على العجب ياعمر ! إن أختك وختنك قد صبوا وتركا دينك الذي أنت عليه ، فمشى عمر دامراً حتى أتاهما وعندهما خباب بن الأرث معه صحيفة فيها طه يقرئهما إياها _ وكان يختلف إليهما ويقرئهما القرآن _ فلما سمع خباب حس عمر توارى في البيت ، وسترت فاطمة _ أخت عمر _ الصحيفة وكان قد سمع عمر حين دنا من البيت قراءة خباب إليهما فلما دخل عليهما قال : ما هذه الهيمنه التي سمعتها عندكم ؟ فقالا : ما عدا حديثاً تحدثناه بيننا . قال : فلعلكما قد صبوتما . فقال له ختنه : ياعمر أرأيت إن كان الحق في غير دينك ؟ فوثب عمر على ختنه فوطئه وطأ شديداً . فجاءت أخته فرفعته عن زوجها فنفحها نفحة بيده فدمى وجهها _ وفي روايه ابن إسحاق أنه ضربها فشجها _ فقالت _ وهي غضبى _ ياعمر إن كان الحق في غير دينك ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله .
فلما يئس عمر ، ورأى ما بأخته من الدم ندم واستحى وقال : أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه ، فقالت أخته : إنك رجس ، ولا يمسه إلا المطهرون ، فقم با غتسل فقام فأغتسل ثم أخذ الكتاب ، فقرأ : (( بسم الله الرحمن الرحيم )) فقال أسماء طيبة طاهرة ثم قرأ : طه حتى انتهى إلى قوله إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي فقال : ما أحسن هذا الكلام وأكرمه ؟ دلوني على محمد .
فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت ، فقال : أبشر يا عمر ، فإني أرجو أن تكون دعوة الرسول لك ليلة الخميس اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام ورسول الله في الدار التي في أصل الصفا .
فأخذ عمر سيفه فتوشحه ثم انطلق حتى أتى الدار ، فضرب الباب ، فقام رجل ينظر من خلل الباب فرآه متوشحاً السيف ، فأخبر رسول الله واستجمع القوم فقال لهم حمزة : مالكم ؟ قالوا : عمر ، فقال : وعمر ، افتحوا له الباب فإن كان جاء يريد خيراً بذلناه له ، وإن كان جاء يريد شراً قتلناه بسيفه ، ورسول الله داخل يوحى إليه فخرج إلى عمر حتى لقيه في الحجرة ، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف ثم جبذه جبذة شديدة فقال : أما أنت منتهياً يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما نزل بالوليد ين المغيرة ؟ اللهم هذا عمر بن الخطاب اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب ، فقال عمر : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . وأسلم فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد .
كان عمر رضي الله عنه ذا شكيمة لا يرام وقد أثار إسلامه ضجة بين المشركين بالذلة والهوان ، وكسا المسلمين عزة وشرفاً وسروراً .
روى ابن إسحاق بسنده عن عمر قال : لما أسلمت تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول الله عداوة قال : فقلت : أبو جهل فأتيت حتى ضربت عليه بابه فخرج إليّ وقال : أهلاً وسهلاً ، ما جاء بك ؟ قال : جئت لأخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد ، وصدقت بما جاء به قال : فضرب الباب في وجهي ، وقال : قبحك الله ، وقبح ما جئت به .
وذكر ابن الجوزي أن عمر رضي الله عنه قال : كان الرجل إذا أسلم تعلق به الرجال فيضربونه ويضربهم ، فجئت _ أي حين أسلمت _ إلى خالي _ وهو العاصي بن هاشم فأعلمته فدخل البيت ، قال : وذهبت إلى رجل من كبراء قريش _ لعله أبو جهل _ وذكر ابن هشام وكذا ابن الجوزي مختصراً ، أنه لما أسلم أتى إلى جميل بن معمر الجمحي _ وكان أنقل قريش لحديث _ فأخبره أنه أسلم ، فنادى جميل بأعلى صوته أن ابن الخطاب قد صبأ . فقال عمر :_ وهو خلفه _ كذب ولكني قد أسلمت فثاروا إليه فما زال يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم وطلح ، أي عيا عمر فقعد ، وقاموا على رأسه وهو يقول : افعلوا ما بدا لكم فأحلف بالله أن لو كنا ثلاث مائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا .
وبعد ذلك زحف المشركون إلى بيته يريدون قتله . روى البخاري عن عبد الله بن عمر قال : بينما هو _ أي عمر _ في الدار خائفاً إذ جاءه العاص بن وائل السهمي أبو عمرو وعليه حلة سبرة وقميص مكفوف بحرير وهو من بني سهم وهم حلفاؤنا في الجاهلية ، فقال له : مالك ؟ قال : زعم قومك أنهم سيقتلوني إن أسلمت ، قال لا سبيل إليك _ بعد أن قالها أمنت _ فخرج العاص فلقي الناس قد سال بهم الوادي ، فقال أين تريدون ؟ فقالوا : هذا ابن الخطاب الذي قد صبأ ، قال : لا سبيل إليه ، فكر الناس وفي لفظ ، في روايه ابن إسحاق : والله لكأنما كانوا ثوباً كشط عنه .
هذا بالنسبة إلى المشركين ، أما بالنسبة إلى المسلمين ، فروى مجاهد عن ابن عباس قال : سألت عمر بن الخطاب ، لأي شئ سميت الفاروق ؟ قال : أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام _ قص عليه قصة إسلامه وقال في آخره _ قلت : أي حين أسلمت _ يا رسول الله ! ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا ؟ قال بلى ! والذي نفسي بيده إنكم على الحق وإن متم وإن حييتم ، قال : قلت : ففيم الا ختفاء ؟ والذي بعثك بالحق لنخرجن فأخرجناه في صفين ، حمزة في أحدهما ، وأنا في الآخر ، له كديد ككديد الطحين حتى دخلنا المسجد قال : فنظرت إليّ قريش وإلى حمزة فأصابتهم كآبه لم يصبهم مثلها ، فسماني رسول الله (( ا لفاروق )) يومئذ.
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول : ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر وعن صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه قال : لما أسلم عمر ظهر الإسلام ودعى إليه علانية وجلسنا حول البيت حِلقا وطفنا بالبيت وانتصفنا ممن غلظ علينا ورددنا عليه بعض ما يأتي به .
وعن عبد الله بن مسعود قال : ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر .