تمهيد:
لكل إنسان حكاية يغزل خيوطها مع رفاق درب تابعوا أم لم يتابعوا مسيرة الحياة معه. وحكايتي أنا حكاية أناس من دمشقي الحبيبة، ظل نبضهم حياً في خاطري. رغم غيابهم تركوا بصماتهم على خط الحياة تأرجحوا مع الأيام، لكنهم لم يتقهقروا أو يطأطئوا.
أناس حارتي، بنات حارتي، شباب حارتي، حملوا قيماً ورواسب، ومفاهيم أصلتها بأصالتها الحياة، وغيرتها بتغيراتها الحياة. فإن وجدت نفسي بينهم ووجدت نفسك معهم فلأننا نعيش أفراحهم وأتراحهم، ويعيشون أفراحنا وأتراحنا، فما زالت الدنيا خيرة وبخير ومن لا يقع لا يقف ولا يصل، هكذا مات بعضهم واقفين.
قالوا:
-حملت سلمى من اسمها بعضاً من تكوينها النفسي والخلقي بنظرة متشوقة نحو المتغيرات التي تحيط بها. توقفت في محطات متلونة تركت في مخيلتها الفتية آثاراً عميقة، ونمنمات مثيرة، وذكريات ثرة، كمرتها في فؤادها.
إذا أطل الماضي بأبعاده الحانية أو الداكنة، تبسمت رضى لحياة عاشتها بين أب وأم عاشقين، حاولا أن يرضيا غرورها بعيش هنيء موار.
قالت نساء الحارة:
-ليست سلمى جميلة كما الجمال بتقاطيع مثالية متناسقة، وأنف دقيق شامخ، وفم مغرٍ وعينين حوراوين.
وقال شاعر:
-كانت سلمى أقوى من الجمال.. حضور حلو، أنفة، وشخصية متميزة. ملكة نفسها وقال آخر:
-إذا أرادت سلمى، صممت، توهجت كشرارة، لم تنزلق في وحل، ولم تقف على قدم واحدة. تفتحت في أرض صلبة مليئة بعروق الذهب.
قالت الأم:
-لسلمى نظرة شفافة تخترق القلب. تقرأ خطوط الزمن في وجوه أناس الحارة. سلمى مزيج من تواشج الضباب والشمس والمطر. خلقت في يوم شتائي عاصف يتلاعب على شاشة الحياة.
كبرت سلمى وسجلت سلمى على دفتر صغير ملامح شخصيات آسرة عن الحارة، بسيطة غنية، ظلت متألقة في ذاكرتها.
"جعلتني دمشقيتي قريبة من الهواء النقي الذي يتسلل من جبل قاسيون عبر النوافذ المشرعة نحو الشمس. بيتنا واسع فسيح ينبض بالحب. يرى السماء الزرقاء بتغيراتها الأربع. في الشتاء تمتلئ الدار ثلجاً وخيراً".
أنام في غرفة نافذتها عالية مشرقة مطلة على حارة مغلقة بمستطيل انكسر أحد أضلاعه يلتصق جداري بجدار أبوي، اسمع دردشتهما وجدالهما وحوارهما.
صوت أمي:
-إن شاء الله ما في إضراب غداً.
يرد أبي:
-نصف السنة إضرابات.
أخي الكبير هشام الذي يُذبح خروف العيد بين رجليه يجر جسده جراً إلى المدرسة "الفرير"Frere وهو يلعن تقاليدها الصارمة، ونظامها القاسي، والساعة التي دخلها.
كما علق الأوسط كرة القدم. أضحت هوايته كارثة حقيقية لعائلة امتهنت القضاء أباً عن جد.
ما كنت لاهية عما يقلق بال والدي، فأبي أمين جمرك دمشق تحدر من صلب علماء تركوا بصماتهم واجتهادهم على الفقه والعدل.
بين اليقظة والحلم يموت الحوار يقترب من الهمس الدافئ.
يحلو لأمي. عروس بيروت، سليلة عائلة عريقة فيها، أن تلتم على أولادها، وأن تقاطع كل متحدث كي تحكي عن أخيها المغترب الذي هاجر إلى إفريقيا في عام ألف وتسعمئة وخمسة وعشرين.
-وهناك- تعيد السيرة ذاتها- أصبح اسمه محمد الفاتح تاجر للحرير والعاج من أكبر التجار. في يوم صحو آخر من أيام نيسان لحقه أخي الأصغر. كان شمساً حقيقية توهجت في البيت. وعندما حمله بحر بيروت، أحست أمي بتسرب الدم الغالي من أوردتها، فأنّتْ، ومكثت تئن طوال حياتها وحتى مماتها.
دفعتني يوماً، وأنا في مطالع قدرتي على القراءة والكتابة أن أخط أول رسالة إليه، فما كانت تفك سوى أحرفٍ من أسماء أولادها التي أغلقت دنياها عليهم.
قرأت لها بعض الأسطر القليلة. كتبتها بحروف كبيرة مائلة عن السطر ملأت الصفحة. فبكت.
أمدني بكاؤها برصيد معنوي عاطفي جسّم كبريائي. ربحت جولة أولى، ولما أتجاوز الثاني ابتدائي. تغلبت على مفردات صعبة سعّرت أوار عطشي إلى عالم زاخر بالحكايا. رحت أنبش عنها في الكتب الصفراء والبيضاء والمجلات وبين مزق الزيبق ودليلة. نسيت حالي، ونسيني الجميع.
كنت أطير فرحاً بقراءاتي. أعاقب دليلة وأغضب من الزيبق. وأعجب بنجيب محفوظ.
ضم بيتنا الكبير أربعة صبيان وثلاث بنات. توأمان جاءتا الدنيا قبل مجيئي أنا إليها، ما لبثا أن أغلقتا الباب على أسرارهما، ولم نلتقط منهما سوى الابتسامة مرسومة على الشفاه الراضخة لقانون العائلة الصريح: لا فضائح.
يرفض عقلي الصغير انطواءهما تحت هيمنة العرف السائد وقيده الذهبي.. "لمها" الثانية قد فارع، وقامة هيفاء، بهيجة، صغيرة كبيرة، سرعان ما صارت أماً لأربع بنات ولما تتخط التاسعة عشرة.