هذا الوجه الذي مرّ أمامي الآن أعرفه جيداً....
فهو في أعماقي منذ زمن طويل... ركضت خلفه، لكنه ضاع في الزحام، صار همي أن أراه مرة أخرى,.. لكن الزحام شديد، والوجوه المتدافعة على مدخل السوق كثيرة جداً،.. بعضها يحمل ملامح متشابهة.. ضياعاً ودهشة وعيوناً لائبة، وتقاطيع من البؤس والحرمان،.. وبعضها ممتلئ بالصحة والطمأنينة والسكون،.. وبعضها بلا ملامح.
لكن الوجه الذي أبحث عنه له ملامح أخرى وتقاطيع حفرتها أيام من القسوة والغضب.
صرت في منتصف السوق التجاري والوجوه تتداخل حيناً وتفترق أحياناً.
أين ذهب الرجل؟.
أين صار الوجه الذي أيقظ أوجاعي النائمة؟.
بحثت عنه في المحال المتراصة على جانبي السوق وفي المقاهي الممتدة فوق الأرصفة، وفي باحات المساجد المجاورة، وفي الكتل البشرية المتدافعة حول عربات الباعة..
كررت المحاولة مرات عديدة.. ولم أجده!.
امتزج وجهي في الوجوه، وتوحدت خطاي مع خطا المتدافعين،..
عدت إلى نقطة الانطلاق حيث رأيته أول مرة،... تابعت المسير تكررت أمامي بعض الوجوه ومرت وجوه جديدة لم أشاهدها من قبل...
صار الوجه الذي أبحث عنه أكثر وضوحاً في ذاكرتي وهو يطل من أعماقي عبر سيل من المشاعر والذكريات التي امتدت خلفي لتغرق الأرصفة التي أدوسها الآن،.. أرهقني البحث تثاقلت خطاي، فوقفت جانياً،.. أسندت ظهري إلى واجهة مغلقة، ورحت أتأمل الزحام بكل ما فيه من وجوه وأجساد وجلبة وألوان متنافرة.
مرّ وقت وعيناي تلتهمان السوق بحثاً عن ذاك الوجه النائم في أعماقي،.. حاولت أن أستعيد ملامحه من جديد..
وجه أسمر اعتلاه الغبار وحاجبان غارقان بسيل من ماء الجبين المنصب تحت حرارة ذاك اليوم الحزيراني الحزين، وخوذة حديدية ملفوفة بخيوط بيضاء متشابكة، وشفاه يابسة كأنما لم يبللها الندى منذ زمن طويل.
والأمر الذي لن أنساه أبداً صوت الرجل حين ارتفع بنحيب متقطع تداخل يومها مع بكاء النساء والأطفال وحشرجات الرجال الممتلئة بدموع القهر والغضب.
في ذلك المساء امتلأت الأودية بدوي القذائف والطائرات التي أكلت السماء فوقنا..
نار ودخان وسحب مقطعة من غبار القصف المتصل وسيل من البشر يعبرون النهر بحثاً عن الحياة وسفوح تحاول عنوة ابتلاع ألسنة اللهب وسحب الدخان التي عجلت في المغيب.
وبين الجموع كانت آلاف البنادق الميتة على أكتاف الرجال تلتمع تحت خيوط المغيب.
هذا الرجل كان أمامي تماماً حين انقضت الطائرات لتلقي بآلاف القذائف على التلال المحيطة بنا.
امتد الصراخ في قلب الدوي، وامتزج نحيب النساء وبكاء الأطفال مع صدى الأودية البعيدة.
تسمر الرجل في مكانه، لم يعد قادراً على الحركة حاول إخفاء البندقية كما فعل الآخرون... وضعها أرضاً،.. دسها بين الأعشاب اليابسة وابتعد قليلاً، ظل مرتبكاً طوال ا لوقت.. خطوات نحو الأمام.. ثم يعود مرة أخرى إلى جوار البندقية، عادت الطائرات من جديد وامتلأ الفضاء دوياً وناراً.
زحف الرجل على بطنه، وضع البندقية على ساعديه تلوى كأفعى بين الأعشاب والصخور.. صارت خوذته ظلاَ على مياه النهر.. دفع البندقية نحو الماء، ارتفع الرذاذ قليلاً ثم أزبد وتصاعدت فقاعات من فوهة البندقية ظل الرجل صامتاً لبرهة من الزمن، نهض متثاقلاً، ثم عاد من جديد للجلوس على حافة النهر، تسمرت عيناه فوق الماء اهتزت أكتافه ثم أطلق بكاء لا يزال يهز أعماقي حتى هذه اللحظة.
تواصلت موجات القصف، وتواصل زحفنا بين الصخور وحين ابتعدنا قليلاً نظرت خلفي، صار الرجل نقطة سوداء على حافة النهر، وظل صوته الدامي معنا طوال الطريق الذي لم نعرف نهايته إلا بعد حين.
ظل حبل الذكريات يمتد خلفي وأنا أحاول الاندفاع وسط الزحام، وظل هذا الوجه ضائعاً بين الوجوه أو كأنما ذاب فيها.
حزيران 2005.