نغوص فيها بين صفحات تاريخنا المشرق، لنأنس بسير السابقين، ونعتبر من أخبار الأولين. ورحلتنا اليوم تعود بنا قرورنا للوراء، لنصل إلى المدينة المنورة أثناء الخلافة الأموية، التي حكمت مشارق الأرض ومغاربها، وكانت أقوى دولة في زمانها.
كانت جيوش الدولة تجوب البلاد، تنشر النور، وتدعوا للخير. وقوافل المجاهدين تنضم لهذه الجيوش، سعيا لإعلاء كلمة الله في الدنيا، وأملا في كسب رضى الله ودخول جنته في الآخرة. وفي القافلة المتوجهة لخراسان، خرج بطلنا، مجاهدا في سبيل الله. خرج وترك خلفه زوجته "سهيلة" وحيدة ولم يمضِ على زواجه منها الكثير. وترك "فروخ" مع زوجته أمانة، هي كل ما يملك من مال. ترك عندها ثلاثون ألف دينار، ووصاها بأن تحتفظ بها إلى أن يرجع.
ظلّت سهيلة وحيدة في المدينة، ولم يتمّر سوى أيام، إلا وظهرت عليها بوادر الحمل. فزاد حزنها على فراق زوجها حزنا بتربية وليدها وحيدة، دون زوج يساعدها في هذه المهمة العظيمة. وظلت سهيلة تنتظر الأخبار القادمة من خراسان. وكلما عاد فوج من هناك، ذهبت وتقصّت أخبار حبيبها الغائب. لكنّها كانت تعود لدارها وحيدة كل مرة، دون زوجها، وحتى دون أي أخبار عنه.
مرّت الأيام والأشهر، وسهيلة صابرة على ألم فراق، راعية لعهد زوجها. لم تيأس ولم تفسق، بل راعت الله في عرض زوجها. ثم حان موعد الولادة، فرزقها الله بطفل جميل، سمته "ربيعة". وأنساها حب ولدها همومها. فنذرت حياتها لتربيته. فكانت له بمثابة الأم والأب. فنشأ ربيعة أحسن نشأة، فأخذ العلم من كبار أهل العلم. ثم جلس يعلّم الناس، فأخذ عنه العلم مالك ابن أنس، وسفيان الثوري، والليث بن سعد. حتى صار يلقّب بربيعة الرأي، لاتساع علمه، وسداد رأيه.
نترك المدينة الآن، ونتوجه لأطراف الدولة الإسلامية. نذهب معا لحيث يرفرف علم الإسلام على حدود الصين. فنرى في معسكر المسلمين، رجلا يجلس وحيدا، يفكّر في حاله. لقد مضى على فراقه لأهله سبع وعشرون سنة، فيا ترى ماذا حدث لبلده، وكيف هي حال زوجته. انقطعت أخبارها عنه، وأخباره عنها منذ التحاقه بجيوش الأمويين لفتح بلاد المشرق. فهل لازالت باقية على العهد؟ وهل مازالت محتفظة بالأمانة؟
قرر هذا الفارس العودة للمدينة المنوّرة، فذهب لاستئذان القائد، فأذن له. فجهّز فروخ (أبو عبد الرحمن) نفسه للرحيل. وبدأ في رحلة العودة، يسابق الزمن، يخشى أن يقضى ينحبه، قبل أن يرى زوجته من جديد. فوصل المدينة على فرسه ورمحه في يده. ثم توجه مسرعا إلى داره. لم يتغير مكانها ولا حالها. حمد الله عندما رأى داره كما تركها، ثم دفع الباب برمحه.
فخرج ربيعة الرأي من الدار مسرعا وصاح بالرجل: يا عدو الله، أتهجم على منزلي؟
فأجاب الفارس الشيخ بغضب: يا عدو الله، أنت دخلت على حرمتي.
فهجما على بعضهما البعض، فاجتمع عليهما الجيران، ووصل الخبر لمالك بن أنس ومشيخة المدينة، فأتوا يعينون ربيعة. فقال ربيعة: والله لا أفارقك إلا عند السلطان.
فقال الشيخ: والله لا أفارقك إلا بالسلطان وأنت مع امرأتي.
فكثر الضجيج، وارتفعت الأصوات، وما أن أبصروا مالكا حتى سكت الناس. فقال الإمام مالك: أيها الشيخ، لك سعة في غير هذه الدار.
فقال الرجل: هي داري وأنا فروخ مولى بني فلان.
فسمعت زوجته كلامه، فخرجت وقالت: هذا زوجي، وهذا ابني الذي خلفه وأنا حامل به. فاعتنقا جميعا وبكيا، ودخل فروخ المنزل، وذهب ربيعة إلى المسجد النبوي الشريف.
جلس فروخ إلى زوجته، وأخذ يحدّثها عما كان عليه حاله على ثغور الإسلام، وسألها عن حالها وكيف قضت كل هذه السنين بمفردها. ثم أخرج أربعة آلاف دينار، وقال لزوجته، أخرجي المال الذي عندك لأضمه لهذا المال. فقالت: المال دفنته، وأنا أخرجه بعد أيام، لكن اذهب الآن وصلِ في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرج فروخ، ولما وصل المسجد، وجد حلقة كبيرة، فيها أشراف أهل المدينة كمالك بن أنس، والحسن بن زيد وابن أبي علي اللهبي والمساحقي، وجمع كبير من الناس. فوقف على الحلقة ففرّج له الناس. وكان على صاحب الحلقة طرحة طويلة، ونكّس صاحبها رأسه قليلا فلم يتمكن فروخ من معرفه صاحبها. ثم سأل فروخ الناس: من هذا الرجل؟
فقيل له: هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن.
ففرح فروخ، وتوجه لداره، وقال لزوجته، لقد رأيت ولدك في حالة، ما رأيت أحدا من أهل العلم والفقه عليها.
فقالت: فأيما أحب إليك، ثلاثون ألف دينار أو هذا الجاه الذي هو فيه؟
فقال: والله هذا أحب إلي من المال.
فقالت: فإني أنفقت المال كله عليه.
فقال: فوالله ما ضيّعتيه.
انتهت رحلتها لهذا اليوم، لنتعلم منها دروسا في التضحية، فنرى المسلم يلبي داعي الجهاد حتى إن كان في أشد أوقات فرحه، أولى أيام العرس. وتعلمنا منها دروسا في الصبر، فنرى المسلمة الشريفة تصبر على ما أصابها وترعى الله في زوجها مهما طالت مدة غيابه. ونأخذ منها العبرة في أهمية العلم، فالعلم أهم بكثير من أي مال في الدنيا مهما بلغ.