من شعر المقاومة
الفدائي و الأرض...........فدوى طوقان
فاروق شوشة
*****************************************
وراء المشهد البطولي الدامي، الذي يدور الآن في الأرض الفلسطينية المحتلة، ملاحم رائعة من الصمود و التضحية بالنفس و الإستشهاد حفاظا على الأرض و العرض و الهوية، و على اسم"فلسطين" الذي يظل آخر ما تنطق به شفاه المستشهدين، و أول ما يتردد على ألسنة الشعراء و أقلام المبدعين
تمسكا بالجذور، وإعلاء لراية الوطن الذي تتشكل صورته من دماء المناضلين و أجساد الضحايا، ودموع الأرامل و الثكالى، و الأحزان الساكنة عيون الأطفال.
و في فترة من الزمن-سيطرت عليها كوابيس الظلام، وروح الحزن الغاضب، في أعقاب هزيمة يونيو1967-كان صوت الشاعرة الفلسطينية الكبيرة فدوى طوقان يمثل طاقة من النور و الأمل و شعاعات من اليقين، نابضا بالإرادة الصلبة، والعناد البطولي، والإصرار على محو آثار الهزيمة، والعودة إلى فضاء الأمل و الإنتصار و الحرية.و كنت محظوظا عندما اختارتني فدوى طوقان لتبعث إلي-من خلف أسوار السجن الكبير الذي تعيش فيه-في بلدتها نابلس بالضفة الغربية-بعدد من رسائلها التي تحمل كلماتها النبيلة ، وعددا من قصائدها الرائعة، التي أبدعتها قبل أن تلتمع في أفق شعر المقاومة أسماء شعرائها الشباب الجدد في ذلك الوقت محمود درويش و سميح القاسم و سالم جبران وتوفيق زياد و راشد حسين و غيرهم من الشعراء الفلسطينيين في داخل الأرض المحتلة وخارجها.
كان شعر فدوى يمثل الأمومة الحقيقية لشعراء هذه الكوكبة-التي قدمت إبداعا شعريا مغايرا، وحساسية شعرية مختلفة، ولغة شعرية تألقت بمفردات الواقع
اليومي الحي، ونجحت في التعامل الفني معه-وكان ولا يزال يحمل ذلك التوهج النادر الذي لم تنطفئ شعلته على مدار أكثر من نصف قرن من الإبداع،
ولا تزال -وهي في ثمانينات العمر-تصغي لإهتزازات وجدانها المرهف الشديد الحساسية، في ارتطامه بتجارب الحياة و الوجود،وامتلائه بفيض هائل من الأحاسيس و المشاعر الجارفة ، والعشق الحميم للوطن و الأرض الفلسطينية بكل ألوانها و عطورها وروائحها.بحيث أصبحت دواوينها
سجلا حيا ناطقا باللوحات الشعرية المعبرة و الصور الحية لطبيعة تمتزج بالإنسان وقضيته، امتزاج حياة ومصير.
ومن خلال شعرها انطلقت مفردات فلسطين إلى الذاكرة الحميمة لكل عربي وهو يقرأ عن نابلس وبيسان و جرزيم وطوباس ورفيديا، ويطالع هذه الجغرافيا الشعرية الحية، التي جسدت وجود فلسطين: خارطة و بشرا ونضالا.
وظل هذا الشعر شاخصا-في دائرة الرؤيا والتصور والذاكرة- محركا للهمم والعزائم قادحا لزناد الحس القومي والوعي بقضية العرب الأولى: فلسطين.
من بين كل رسائل فدوى كانت الرسالة التي حملت إلي قصيدة من عيون التراث العربي للشاعر سعد بن ناشب الذي عاش في عصر الدولة الأموية زمن ولاية الحجاج على العراق.رأت فدوى في القصيدة تعبيراحيا معاصرا عما تتعرض له بيوت الفلسطينيين
على أيدي المحتل الإسرائيلي من هدم وتدمير و تحطيم و ما يلاقيه سكانها من إرهاب وبطش و تشريد وترويع،ولا تزال الأرض الفلسطينية حتى اليوم-بعد الرسالة التي كتبتها فدوى بخمسة وثلاثين عاما-تعيش هذا الواقع المأساوي المرعب.
وكان الشاعر سعد بن ناشب قد قال قصيدته عندما هدم الحجاج-بعسفه و بطشه وطغيانه-بيته في البصرة وأحرقه،فلم يتردد في إعلان تصميمه على غسل العار الذي لحق به،وبعثت فدوى برسالتها -ومعها القصيدة-مؤكدة أن في إذاعتها ونشرها المعنى الذي تحرص على توصيله وتثبيته، وهو الصمود في وجه البطش والعدوان، واليقين الواثق من حتمية النصر.
يقول سعد بن ناشب:
سأغسل عني العار بالسيف،جالبا....على قضاء الله،ماكان جالبا
واذهل عن داري،وأجعل هدمها....لعرضيمن باقي المدينة حاجبا
ويصغر في عيني تلادي،إذا انثنت....يميني بإدراك الذي كنت طالبا
فإن تهدموا بالغدر داري،فإنها....تراث كريم لايبالي العواقبا
أخي غمرات لا يريد-على الذي....يهم به من مفظع الأمر-صاحبا
إذا هم لم تردع عزيمة همه..ولم يأت ما يأتي من الأمر هائبا
فيا لرزام رشحوا بي مقدما.....إلى الموت خواضا إليه الكتائبا
ثم يطلق سعد بن ناشب هذين البيتين اللذين أصبحا سائرين على كل لسان ،وصفا لكل من ينهض للأمر دون خشية من العواقب غير مستشير سوى سيفه و عزيمته :
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه.....و نكب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في رأيه غير سيفه.....ولم يرض إلا مقبض السيف صاحبا
و في رسالتها التي أرفقت بها قصيدتها "الفدائي والأرض"قالت فدوىفي الثلاثين من سبتمبر 1967اندلعت واحدة من أشد معارك المقاومة في روابي طوباس -محافظة نابلس-وقد استشهد فيها الفدائي مازن أبو غزالة استشهادا بطوليا رائعا.فبعد مقاومة عنيدة استمرت ثلاثة أيام، نفذت الذخيرة وأصبح مازن وجها لوجه مع العدو،بعد أن تمكن من تغطية انسحاب رفاقه،وأخذ من وسطه قنبلتين فجرهما بين يديه، وتمزق ، ومزق معه عددا من جنود العدو المحيطين به.
وقد وجدت في مفكرة مازن كلمات متوترة،صادقة ،كان قد كتبها بتاريخ 15يونيوشهر الحزن والذهول،من هذه الكلمات "يا أهلي،يا شعبي،ماذا أكتب ولمن أكتب؟أرجو ألا أكتب إلا رسالة نصر".
وفي صفحة أخرى" زغرد يا رصاص واسكت يا قلم ".
و كانت كلمات مازن بمنزلة التحريك الشعري إبداع واحدة من أجمل قصائد فدوى طوقان ، وأكثرها تعبيرا عن لغتها الشعرية الصافية الشفيفة،ووجدان أمومتها المفعمة بمحبة الحياة والأرض والإنسان،ومعجمها الشعري الذي امتلأ بمفردات فلسطين حية شاخصة.تلك هي قصيدتها "الفدائي والأرض" والتي تقول فيها:
الفدائي والأرض.
في بهرة الذهول والضياع
أضاء قنديل إلهي حنايا قلبه
وشع في العينين وهج جمرتين
وأطبق المفكرة
وهب مازن الفتى الشجاع
يحمل عبء حبه
وكل هم أرضه وشعبه
وكل أشتات المنى المبعثرة!
ّ***
ماض أنا أماه...ماض مع الرفاق
لموعدي...راض عن المصير
أحمله كصخرة مشدودة في عنقي
فمن هنا منطلقي...وكل ما لدي ،كل النبض
و الحب والإيثارة والعبادة
أبذله لأجلها،للأرض
مهرا،فما أعز منك يا...أماه،إلا الأرض!
يا ولدي!...يا كبدي!
أماه،موكب الفرح...لم يأت بعد
لكنه لابد أن يجيء
يحدو خطاه المجد
يا ولدي...يا...
لا تحزني إذا سقطت
قبل موعد الوصول...فدربنا طويلة شقية
ودون موعد الوصول ترتمي على المدى
سواحل الليل الجهنمية
نعبرها على مشاعل الدماء
لكن،يجيء بعدنا الفرح
لابد من مجيئه هذا الفرح
فيتساوى الأخذ والعطاء
يا ولدي...اذهب!
وحوطته أمه بسورتي قرآن
اذهب!...وعوذته باسم الله والفرقان
كان مازن الفتى الأمير سيد الفرسان
كان مجدها وكبرياءها وكان
عطاءها الكبير للأوطان!
***
في خيمة الليل وفي رحابة العراء
قامت تصلي...ورفعت إلى السماء وجهها
و كانت السماء...تطفح بالنجوم والألغاز
...............................................
يا يوم أسلمته للحياة...عجينة صغيرة مطيبة
بكل ما في أرضنا من طيب
يا يوم ألقمته ثديها الخصيب
و عانقت نشوتها ...واكتشفت معنى وجودها
في درة الحليب!
..............................................
يا ولدي...يا كبدي
من أجل هذا اليوم...من أجله ولدتك
من أجله أرضعتك...من أجله منحتك
دمي وكل النبض...وكل ما يمكن أن تمنحه أمومة
يا ولدي...يا غرسة كريمة
اقتلعت من أرضها الكريمة
اذهب، فما أعز منك يا
بني، إلا الأرض!
***
"طوباس"وراء الربوات
آذان تتوتر في الظلمات...وعيون هاجر منها النوم
الريح وراء حدود الصمت
تندلع،تدمدم في الربوات
تلهث خلف النفس الضائع
تركض في دائرة الموت!
................................
يا ألف هلا بالموت!
واحترق النجم الهاوي ومرق
عبر الربوات...بوقا مشتعل الصوت
زارعا الإشعاع الحي على الربوات
في أرض لن يقهرها الموت!
أبدا لن يقهرها الموت!
كانت فدوى طوقان-في ذلك الزمان العصيب-الذي كنا نظنه ذروة المأساة(سبتمبر1967)فإذا به البداية الكارثية لما نعايشه اليوم في الأرض المحتلة و في الوطن العربي كله-كانت لا تكتفي بهذه
الصرخات الشعرية المدوية، الرافضة لليل الهزيمة وإعصارها الشيطاني وطوفانها الأسود، فقد تحولت إلى جيش محارب،طلقاته وذخيرته كلمات مغموسة بدم القلب وعطر الشهداء،وقصائد متوهجة بإرادة النضال والبطولة والتحدي،وانهالت رسائلها الشعرية المقاتلة-التي نجحت في تسريبها سرا من نابلس حيث تقيم في الضفة الغربية-إلى أصدقاء لها في القاهرة وبيروت،ومن العاصمتين تنتقل الرسائل إلى الصحف والإذاعات.
واختصتني فدوى بعدد من قصائدها الشهيرة التي جمعتها بعد ذلك في ديوانها "الليل والفرسان"لتقديمها من خلال برنامج"لغتنا الجميلة"الذي بدأت كتابته وتقديمه في مستهل شهر سبتمبر1967، الشهر الذي كتبت فيها قصيدتها"الفدائي والأرض"ومن بعدها
"لن أبكي"،"رسالة إلى طفلين في الضفة الشرقية كرمة وعمر"،"حمزة"، وغيرها من القصائد.
وكان مستمعوا هذه القصائد-عبر الإذاعة-وقراؤها على صفحات الصحف تنبض قلوبهم مع قلب فدوى التي نجحت بكلماتها في اختراق الأسواروتوصيل الصوت الفلسطيني الحقيقي إلى كل مكان لتبدد بعض ظلمات ليل الهزيمة.
ومن بين ثنايا هذه القصائد،وغيرها من شعر فدوى،كان جمال جديد للعربية يتألق هو جمال الصدق والعنفوان،وهو شيء آخر غير جمال البلاغة وروعة الصور والتشبيهات والإستعارات وألوان البيان. جمال مسقى بنبض الصدق، واحتراق الحرف،وزهو اللغة المعبرة،وروعة تشكيل القصيدةالشعرية التي يمكن أن تكون تحقيقا أورسالة أو وصية او حوارية أو تصويرا لحادثة أو رجع صدى لموقف أو حال أو كيانا يتشكل خارج كل هذه الأطروالصيغ،لأن كيان الفجيعة والمواجهة التي تحمل عريها الكامل،وتلقي بالزيف والتردد والهوان واللامبالاة.
وما أشد حاجة شعرنا اليوم إلى هذا الجمال النبيل الفريد،جمال الصدق والمواجهة،وجمال ارتفاع قامة المبدع إلى مستوى لغته القومية، وارتفاع قامة اللغة التي يبدعها إلى مستوى الشموخ والكبرياء.
وليبارك الله في عمر هذا الكنز الجميل :فدوى طوقان،إنسانة ومبدعة.
منقول: فاروق شوشة،مجلة العربي،العدد529 ديسمبر2002.