█◄ الطـريق إلى الاسـتقلال ►█

الطـريق إلى الاسـتقلال




كيف يُكتب التاريخ؟ سؤال يفترض أن يطرحـه كل من يتصدى للحديث عن الماضي. المؤرخون القدامى من هيرودوت الإغريقي إلى الطبري المؤرخ الإسلامي الكبير، لم يكن لديهم لبس في الإجابة .. فقد كتبوا عن أحداث الماضي بشـفافية مطلقة .. أن تذكر روايات من عاصروها ، وأن تقدم آراءهم مع أو ضـد. ولازال كبار مؤرخي العصر الحديث يلتزمون بهذا النهج. ولك فقط أن تطالع فصول الطبري مثلا عن الفـتـنة الكبرى.

لكن كثيرا من كتاب التاريخ المحدثين لدينا خرجوا عن هذا المنهج ليتركوا تحيزاتهم تحكم انتـقـائيتهم في ذكر التفاصيل ، فيطمسون أحداثا من أجل تمجيد أشخاص فيرسمون لهم صورة شـبه مقدسة .. أو العكس. وهذا للأسف شائع لدى من كتبوا عن الحقبة الإيطالية أو فترة الأربعينيات أو ما بعد الاسـتقلال. وسأحاول هنا أن أقدم ملخصا لتلك الحقب بقدر ما أستطيع من الحيدة والموضوعية.


الخـلـفـــية: العـهـد الإيطالي

مع نهاية عقد الثلاثينيات ، وقبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية ، كان الوجود الإيطالي في ليبيا قد بلغ ذروة استقراره. فقد بسط الإيطاليون نفوذهم على كامل التراب الليبي ، بعد انحسار المقاومة الوطنية ، وحققوا بعض أحلامهم الإمبراطورية: توطين عشرات آلاف من فلاحي صقلية ، تحديث المدن الساحلية ومد الطريق الساحلي. على صعيد آخر ونتيجة لذلك الإحساس بالثقة ، أظهر الطليان بمبادرة حاكم ليبيا آنذاك المارشال بالبو ، استعدادا لقبول الليبيين كمواطنين ، وعبر هذا التوجه عن نفسه في التوسع في بناء المدارس العربية الإيطالية ، وتعيين ليبيين في مناصب إدارية على صعيد البلديات المحلية ، وأخيرا بإصدار قانون المواطنة وتوزيع شهادات الجنسية على بضع مئات من الأعيان والمتعلمين.

وعلى الضفة الأخرى ، كان عشرات الآلاف من اللاجئين الليبيين في مصر ، وتونس والشام وتشاد ، يتجرعون مشاعر الغربة والحنين إلى الوطن ويعانون من مهانة الفقر وضنك العيش كأي لاجئين في أي زمان ومكان. وإن نجح بعضهم في ترسيخ أقدامهم في مواطنهم الجديدة ، وخاصة في مجال التجارة كما كان حظ البعض في مصر غربي الإسكندرية في العامرية ومريوط ومطروح.

وفي المهجر واصل الليبيون الدفاع عن قضية وطنهم في المجالات الإعلامية ، وبرزت في هذا المجال جمعية الدفاع الطرابلسي البرقاوي في الشام التي قادها البشير السعداوي وعمر فائق شنيب وبكري قدورة. وسيحفظ التاريخ مواقف زعامات من أصل ليبي أمثال آل الباسل وآل لملوم ، الذين قدموا الكثير لمساعدة المهاجرين.


الحرب العالمية

في عام 1939 اندلعت الحرب العالمية الثانية ، بين ألمانيا وإيطاليا ( معسكر المحور) ، في مواجهة معسكر الحلفاء الذي قادته بريطانيا ثم أمريكا. وإثر هجوم إيطالي على مصر ، انتقلت سـاحة المعارك إلى الحدود الليبية المصرية. وتوالت المعارك في المنطقة الشرقية من بلادنا بين الجيوش الألمانية والبريطانية لعدة شـهور. وفي تلك المعارك تم أسر حوالي خمسة آلاف من الليبيين المجندين فى الجيش الايطالى ، التحق معظـمـهم بجيش التحرير الليبي الذي تشكل أساسا من المتطوعين من الليبيين الموجودين في المهجر.


بداية التحرك الليبي

حين اندلعت الحرب العالمية الثانية ، بادر السيد إدريس السنوسي الذى كان مقيما فى المهجر بمصر ، إلى الاتصال بالإنجليز، وأعلن انحياز ’’الليبيين / السنوسيين / البرقاويين‘‘ إلى جانب الحلفاء.

بدأت مبادرة السيد إدريس بدعوته أعيان الجالية الليبية الى اجتماع فى منزله بحي فكتوريا بالإسكندرية، خلال أيام 23-20 اكتوبر 1939ووافقوا على تكوين جيش من المتطوعين الليبيين. لكن هذه الخطوة ، قوبلت بالشك من قبل بعض زعماء طرابلس.

وهنا اكتسب ادريس السنوسي، جدية وأهمية ، بعد أن أمضى قرابة عشرين سنة في مهجره بمصر ، لا يلتفت إليه أحد. بينما رأت بريطانيا مبكرًا إمكانية الاستفادة من رغبة المهاجرين الليبيين في مصر لتحرير وطنهم.

توالت المعارك بين كر وفر بين الحلفاء ودول المحور ، بدخول القوات الألمانية لساحة الحرب في شمال أفريقيا. وفي بدايـة أبـريل 1942 نزل الجنرال الألماني رومـل ’ثـعـلب الصحـراء‘ بقواته في العقيلة وسرعان ما اكـتسح بـرقـة بحركة التـفاف ، عبَر بها برقة على خط مستقيم جنوبي الجبل الأخضر ، وهي طريق القوافل القديمة أو ما تسمى أحيانا طريق عزيزة أو عزيز. وتجاوز طبرق التي اكتفى بمحاصرتها دون دخولها ، ليتقدم داخل الحدود المصرية حيث أوقـفته المقاومة البريطانية عند وادي حلفا أو مرتفع العلمين. وشكل التوغل الألماني تهديدا فعليا للوجود البريطاني في مصر، وأثار الفزع مما جعل القيادة البريطانية تقوم بترحيل رعاياها وإداراتها من القاهرة والاسكندرية إلى فلسطين والسودان تحسبا لأي غزو المانى. وبالمثل، غادر السيد إدريس القاهرة إلى القدس ، وسافر بعض الليبيين الى السودان.

وفي يوم 1942/10/24 اندلعت معركة العلمين، وتقدم الجيش الثامن البريطانى بقيادة الجنرال مونتجمري ليحتل برقة. وقد شارك في هذا الزحف رجال الجيش الليبي كقوات كشافة مساندة، و كحلقة وصل مع الأهالي، ولتأمين الاستقرار وحفظ الأمن. كما شارك ليبيون في وحدات الكوماندوس للعمل والتخريب وراء خطوط العدو. ذلك كان أفضل ما أتاحته الظروف السياسية في عالم مشتعل بحرب عالمية. وانتهت الحرب في الساحة شمال أفريقيا بسيطرة جيوش الحلفاء على أقاليم ليبيا.

لا شك أن السيد إدريس كانت له طموحاته الخاصة، وأقلها تأمين استمرار الطريقة السنوسية التي أسسها جده. وعاد السيد إدريس إلى البلاد لأول مرة سنة 1944 وقوبل بفرح وحماس، واجتمع بأعيان المدن ومشايخ القبائل مرددا شكره لله تعالى على معجزة خروج الطليان، مؤكدا كل مرة امتنانه لدولة بريطانيا التي حررت البلاد من براثن الطليان، وداعيا للتسامح ونبذ الفرقة. لكن الإدارة البريطانية لم تكن مستعدة لإعطائه مقاما رسميا بحجة أن مستقبل برقة لابد أن ينتظر انتهاء الحرب العالمية. فعاد إدريس إلى مصر ليرجع إلى برقة نهائيا سنة1946.




خطوة ، خطوة ..

المشهد الليبي في الأربعينات يحوي تفاصيل منهكة وسريعة التغير. ففي ظل روح الحرية التي سمحت بها الإدارة البريطانية ، تشكلت أحزاب وصدرت صحف، وتزايد النقاش السياسي محليا. لكن المبادرات الدولية هي التي حددت المسار. وبفضل مصالح الدول الكبري، استقر الرأي في الأمم المتحدة على منح ليبيا استقرارها، وأوكل أمر الإشراف على المرحلة الانتقالية إلى الدبلوماسي الهولندي آدريان بلت.

ورغم التفاصيل ، يمكننا أن نختزل تلك التطورات إلى ما يشبه المعادلة الرياضية ! فالإنجليز الذين خرجوا منتصرين من الحرب العالمية ، وضعوا أيديهم على برقة وطرابلس .. احتلالا أو تحريرًا حسب وجهة نظر المراقب. المهم أن جيوشهم دخلت البلاد واستقرت واستحوذت على المعسكرات الإيطالية القديمة. وكانت رغبة بريطانيا في الاستقرار في ليبيا قرارا استراتيجيا ، لحماية المدخل الخلفي نحو قناة السويس وبترول الشرق الأوسط. ومحليا نجحوا أيضا في تأسيس إدارات تحولت تدريجيا إلى حكومات محلية يديرها ليبيون، معظمهم ممن عملوا في دواليب الحكم الإيطالي نظرًا لخبراتهم الإدارية.



الواحد والعشرون .. ثم الستون!

إثر قرار الأمم المتحدة فى 12 اكتوبر 1949 بمنح ليبيا استقلالها، وتكليف آدريان بلت برعاية المرحلة الإنتقالية ، أختيرت في ليبيا لجان لتحديد نوع الحكم ووضع الدستور. فكانت أولا لجنة الواحد والعشرين ، ثم لجنة الستين أو الجمعية الوطنية التأسيسية. وثارت جدالات كبيرة حول كيفـية تمثيل الشعب الليبي لتقرير مصيره وشكل دولته القادمة، في تلك الظروف الصعبة من غياب إدارات، وعدم وجود سجلات، فضلا عن الأمية السائدة وصعوبة الاتصال بالدواخل.

وفي النهاية تم تمثيل طرابلس وبرقة وفزان بأعداد متساوية رغم اختلاف تعداد سكانها ؟ ثم تحول الجدل إلى شكل الدولة القادمة ؟ هل ستكون موحدة أم فيدرالية ؟ وكيف يورث العرش؟ .. الخ.




الجمعية الوطـنـــية

وعبر سلسلة من التسويات، تشكلت الجمعية التأسيسية (لجنة الستين) التي مثلت إلى حد كبير كل قبائل ومناطق البلاد. وكانت الجمعية برئاسة الشيخ أبو الاسعاد العالم. وعقدت 43 جلسة في طرابلس (من يوم 25 نوفمبر 1950 إلى 6 نوفمبر1951. .وجلساتها مدونة بقدر كبير من النزاهة. وعن هذه اللجنة انبثقت لجنة الدستور. وانتهت كل تلك الجهود إلى صياغة شكل الدولة الليبية : مملكة دستورية يملك فيها الملك إدريس ولا يحكم ، ونظام برلماني ، وتدار الدولة على أساس فيدرالي أي حكومة اتحادية وثلاث ولايات لكل حكومة محلية (مجلس تنفيذي من نظار ومجلس تشريعي).



تشكيل أول حكومة

فى مارس 1951 عين الملك إدريس محمود المنتصر رئيسا للحكومة الاتحادية المؤقتة ، للإعداد لبناء مؤسسات الدولة التى أمست قاب قوسين أو أدنى من الاستقلال. وكان محمود المنتصر الذي نال تعليمه في ايطاليا ، أحد أعيان طرابلس، وذي خبرة إدارية اكتسبها من خلال العمل أيام الإدارة الإيطالية. وهذه السمات جعلته مقبولا لدي الإنجليز. كما أن محمود المنتصر لم يكن يمتلك قاعدة شعبية ، وربما لهذا السبب رآه إدريس مأمون الجانب وأكثر مطواعية. وتشكلت الحكومةَ المؤقتة فى 1951/3/29 من المنتصر رئيسا ووزيرا للعدل والمعارف، وعلى الجربى للخارجية والصحة، وعمر شنيب للدفاع، ومنصور بن قداره للمالية، وابراهيم بن شعبان للمواصلات،

و محمد بن عثمان الصيد وزير دولة.


الـفـعـل .. وردود الفـعـل

في الشارع السياسي لم يتوقف التنافس عند العواطف المتنافرة بالطبع، ودارت معارك كلامية وعلنية بين الجانبين ، بلغت ذروتها فى 19 مايو 1951حين ألقيت قنبلة على سيارة الأمير إدريس أثناء أول زيارة له لمدينة طرابلس. وألصقت التهمة بحزب المؤتمر الطرابلسي ، ولعلها كانت من فعل شبابه المتطرفين، أو من دسائس الإنجليز كما كان بعض أبناء تلك الفترة يقولون. والأهم أن دخول إدريس للمدينة قوبل بهتافات مضادة للنظام الفيدرالى ولحكومة المنتصر الانتقالية، وإلصاق مناشير على الجدران تنادي بمقاطعة الاحتفالات. كانت الزيارة والحادثة مناسبة لزرع مزيد من الشكوك المريرة بين أطراف السياسة الليبية.

أما فى بنغازى .. فإثر اكتشاف جثة متعفنة فى مستشفى المدينة، لمواطن تأخر دفنه، قاد رجال جمعية عمر المختار الاحتجاجات والمظاهرات المنددة. وفى يوم 8 يوليو 1951 قامت حكومة برقـة برئاسة السيد محمد الساقزلي باعتقال مصطفى بن عامر رئيس جمعية عمر المختار، وشاعر الوطن أحمد رفيق المهـدوي وعشرات من الشباب. وتم إصدار قرار بحل الجمعية وتعطيل جريدة الوطن لسان حال الجمعية. واقتحم مقر الجمعية وصودرت ملفاتها ومكتبتها. وفيما بعد تم الحكم بالسجن على مصطفى بن عامر ، ثم بعد شهور بنفي قادة آخرين (بشير المغيربى ومحمود مخلوف) إلى واحة مرادة لبضعة شهور.

وفي 24 ديسمبر 1951 في مدينة بنـغــازي، وبحضور رئيس الوزراء محمود المنتصر، قـرأ الملك إدريس بيانا قصيرا بإعلان استقلال ليبيا. وهكذا للأســف ولدت الدولة الجديدة على رماد خفي من الضغائن والشكوك والتوجس. وأمام هذه الخلفية، من احتدام المشاعر، عقدت أول انتخابات بعد الاستقلال.



خـطــأ .. أم خـطـيــئة ؟

وبينما مضت الانتخابات هادئة في برقة، فقد صاحبتها صدامات دامية بين الناس والبوليس فى فندق بن غشير وسواني بن يادم وجنزور وترهونة ومصراتة والزاوية وصبراتة، بسبب تدخل الحكومة لصالح مرشحيها. وأعلنت الحكومة حالة الطوارئ .. وفى صباح 22 فبراير .. اعتقل السعداوى زعيم المؤتمر الوطني الطرابلسي وابنه وأخوه وتم تسفيرهم بالطائرة الى مصر عن طريق بنغازى . كما رُحّل أحمد زارم، سكرتير حزب المؤتمر الى تونس .. وجميعهم بحجة أنهم يحملون جوازات سفر غير ليبية .. وتم اقتحام مقر المؤتمر وتحطيم ما به ، وإنزال لافتاته ، وتعطيل جريدة الشعلة الناطقة بإسمه.




ما حدث في الانتخابات كان جزئيا من باب التزوير المحض، لكنه كان أيضا نتيجة الولاء الشخصى والأسرى والقبلى الذي كان سمة ذلك العصر. بينما نجح مرشحو حزب المؤتمر الخمسة فى دوائر طرابلس المدينة. ومع ذلك تبقى مسؤولية أحداث الشغب، وما ترتب عليها من ضحايا ودماء ، غامضة الى حد ما. الأكيد أن من قـتلوا إنما وقعوا صرعى برصاص البوليس. فهل كانت مؤامرة مبيتة من الحكومة ؟ أم أن الحكومة فقدت أعصابها وخشيت انفلات زمام الأمن؟ وهل استدعى الأمر حقا كل ما سفك من دماء؟



أفـق ما بـعـد ..

وهكذا بدأت ليبيا حقبة الاستقلال ، بمزيج من الأمل والأسى .. وقدر كبير من الشك لدي أبناء النخبة الشابة. كان الفرح باسـتقلال ليبيا حـقـيـقيا .. لكن البلاد كانت فـقـيـرة، ولقـوات الحـلـفاء المنتصرة في الحرب العالمية معسكراتها، وجاء توقيع المعاهدات تحصيل حاصل، لكـنها قـوبلت بالرفض من قبل الشارع السياسي. ومع ذلك ألف شاعر الوطن أحمد رفيق المهدوي ولسان حال المعارضة الوطنية، قصيدته التي قال فيها’’ عيد عليه مهابة وجـلال / عيد وحسبك أنه اسـتقلال‘‘. ولهذا، ومهما ترتب على إعلان الاسـتقلال من مـضـاعـفات سـلبية .. فإنـه كان انـعـطافـة هـامة في تاريخ وطـننا ليبــيا ..




بقلم : محـمد محـمد المفـتي

بارك الله فيــــــك