تضارب مطامع الدول الأقوى ينتج استقلال ليبيا المعلن
في 24 ديسمبر 1951
لم تكن ولادة الدولة الليبية المعاصرة طبيعياً أمراً ميسوراً، فإلى جانب الأوضاع المتردية والتخلّف الناتج عن أربعة قرون من الهيمنة الأجنبية على المجتمع الليبي ووطنه، صارت ليبيا ببداية العقد الخامس من القرن الماضي محط اهتمام القوى العالمية التي يسعى كلٌ منها للحصول على موطئ قدم له فيها، أو على الأقل الحيلولة دون استحواذ أي منها على الفريسة المسلح بين المنفرداً .
فعلى طول المدى الزمني للحرب العالمية الثانية كانت ليبيا جزء من مسرح الصراع قوى المتنازعة، ومن ثمَّ دارت على أرضها رحى بعض المعارك الفاصلة في أبشع حرب بين أعتى قوى عرفها التاريخ حتى ذلك الحين، وما أن فرض الحلفاء على دول المحور القبول بالهزيمة حتى استبدل الاحتلال الإيطالي لليبيا باحتلال أنجلو – فرنسي مزدوج فرضه منطق انتصار الأقوى وقوانين الحرب التي بموجبها اكتسبت بريطانيا شرعية إدارة مناطق الشمال الليبي، فيما اكتسبت فرنسا شرعية إدارة المنطقة الجنوبية المحادّة لمستعمراتها في كلٍ تشاد، والجزائر، وتونس، وحفظاً لحق الحليف الأكبر منح البريطانيون الولايات المتحدة الأمريكية حق التواجد العسكري بإقامة قاعدة هويلس وملاحقها في مدينة طرابلس وما جاورها، لتكتسب فيما بعد دورها المرسوم لتطويق المد الشيوعي المزعوم وخطره على العالم الحر ! وعليه صارت ليبيا تحتضن ثلاث قوى عالمية كبرى إلى جانب كونها مستعمرة إيطالية لم يُفصل في أمرها بعد من حيث الحق الإيطالي في التمسك بها .
وما أن وضعت الحرب أوزارها حتى تبيّن حجم الاهتمام الدولي الذي تحظى به ليبيا من بين المستعمرات الإيطالية في أفريقيا، ولأنّه لا مفر من التفاهم على مستقبل هذا الموقع الاستراتيجي الذي تتمركز به ليبيا جغرافيا، انعقد مؤتمر على مستوى وزراء خارجية كبار العالم 1945 مسيحي دون أن يتوصّل إلى توافق يرضي طموحات الجميع، فأعيد التئامه في السنة التالية ليستعرض المؤتمرون مقترحاً أمريكياً يفرض وصاية دولية على ليبيا، بينما كان الفرنسيون يطرحون مشروعاً ينطوي على الوصاية لهم على المنطقة الجنوبية المعروفة بفزان، والوصاية لبريطانيا على المنطقة الشرقية المعروفة ببرقة، وأن تعاد المنطقة الغربية المعروفة بطرابلس للنفوذ الإيطالي .
سرعان ما اصطدم هذا المقترح بالرفض من قبل الاتحاد السوفييتي الذي طالب بالوصاية له على منطقة طرابلس – ومن المعلوم بأنَّ للروس مطامع في التمركّز بليبيا منذ عهد الأسرة القره مانلية، فما بالك وقد بات الصراع بينهم والغرب أيدولوجيّاً – وعليه تواجهت المطامع فحالت دون التوافق بهذا المؤتمر كسابقه ليستمر الإبقاء على الوضع القائم .
على أثر معاهدة الصلح التي تنازلت إيطاليا بموجبها عن المطالبة باستعادة مستعمراتها السابقة سنة 1947 مسيحي، اتفقت الدول الكبرى على تكوين لجنة مشتركة من بينها لدراسة أوضاع المستعمرات الإيطالية، ورفع توصيات بشأنها إلى مؤتمر على المستوى الوزاري السابق ينعقد في السنة اللاحقة بباريس، وبالفعل باشرت هذه اللجنة مهامها بشأن ليبيا طيلة الفترة الممتدة من 6 مارس حتى 20 مايو 1948 مسيحي، وجالت بمختلف المناطق الليبية فتبيّن لها الإجماع الأهلي على المطالبة بالاستقلال، ومع ذلك لم يتفق أعضاؤها سوى على انعدام القدرة الليبية على الاستقلال المطلوب أهليّاً بحجة افتقادها لمقومات الدولة المستقلة، الأمر الذي أدّى إلى إحالة القضية الليبية على الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي كلّفت بدورها لجنة الأمن والسياسة التابعة لها بدراسة الملف الليبي ورفع توصيـات بخصوصه إليها .
طيلة الفترة السابق استعراض أحداثها كان الوجود الغربي في ليبيا يفرض نفسه، وكانت الجهود الدبلوماسية الغربية متواصلة، ويدفعها قاسم مشترك يتمثّل في قفل الباب أمام أي توافق يتيح للاتحاد السوفييتي وبالتالي للمد الماركسي فرصة النفاذ إلى المنطقة، بالإضافة للبحث عن غطاء أكثر شرعية لهذا لوجود القائم فعليّاً بليبيا .
ولكن في ذات الوقت تتوازى مع هذا القاسم الغربي المشترك، وتكافئه أهمية، مآرب خاصة بكل طرف من أطرافه، تتعارض فيما بينها، كما تتعارض مجتمعة مع الاستجابة لأي مطلب ليبي باستقلال حقيقي .
ففرنسا لا يروق لها أن تستقل ليبيا حتى شكليّاً لئلا تهب رياح التحرّر على مستعمراتها المجاورة، وبالتالي قد يستنهض ذلك قواها التحرّرية .
وبريطانيا في أحوج ما تكون إلى تواجد عسكري قوي قادر على حماية سيطرتها على قناة السويس فيما لو فكّرت مصر في تأميمها، أو فكّرت أية قوة أخرى في المساس بحقوقها في ذلك .
أما أمريكا فلا مجال للاستغناء عن تمسكها بحق التواجد العسكري في ليبيا، من جهة حماية لمصالحها الوطنية، ومن جهة أخرى لحماية العالم الحر – كما يحلو لها الادّعاء – من الخطر الماركسي، وبالمقابل كان للاتحاد والسوفييتي قدرته على المطالبة بنصيب له في مستقبل ليبيا وصايةً أو استقلالاً .
وأمام هذه المطامع المتضاربة، تأكّد تعقّد الأمر أكثر بطرح مشروع " بيفن – سيفورزا " الذي أعدّه وزيرا خارجية بريطانيا وإيطاليا، والقاضي باقتراح الوصاية البريطانية على منطقة برقه، والوصاية الإيطالية على منطقة طرابلس، والوصاية الفرنسية على منطقة فزان، ولمدة عشر سنوات تُمنح بعدها ليبيا استقلالاً شاملاً إذا ما سمحت الظروف عندئذ بذلك .
ولأنَّ هذا الطرح وإنْ كان يتماهى مع المصلحة الأمريكية ضمناً، فإنّه إلى جانب الرفض الأهلي العارم له، اصطدم بالمطامع السوفييتية التي ترتّب عليها دعم الاتحاد السوفييتي للمطالب العربية والآسيوية في الأمم المتحدة بمنح ليبيا استقلالها، وبالتالي رُفض المشروع عند التصويت عليه بالجمعية العامة سنة 1949 مسيحي بأغلبية 37 صوتاً مقابل 14 صوتاً لصالحه، وامتناع 7 عن التصويت .
أعطت هذه النتائج للتصويت على هذا المشروع دلالة قويّة على أنَّ حل مشكلة الخلاف الدولي حول مستقبل ليبيا لن يتأتى بغير الموافقة على استقلالها، وعليه سارعت إيطاليا إلى تأييد ذلك أملاً في مساندة الدول العربية والإسلامية وما عداها من الدول المؤيدة للاستقلال الليبي بشأن بقية مستعمراتها في أفريقيا، وأوعزت بريطانيا لـ " إدريس السنوسي " بإعلان استقلال برقة كإمارة سنوسية، لتضمن تمركزها بها في المستقبل بغض النظر عن مصير بقية المناطق الليبية، وذلك ما صار إليه الحال فيما بعد .
في ضوء هذه المعطيات الدولية أضحت القناعات قائمةً على شيء من التوافق بين مختلف الأطراف المهتمة بالمسألة الليبية، فتقدّمت وفود كل من العراق، وباكستان، والهند، وأمريكا بالأمم المتحدة بمقترحات عامة سرعان ما تمكّنت لجنة فرعية من إحالتها إلى مشروع قرار باستقلال ليبيا، وبعرضه على اللجنة السياسية أجازته في 12 نوفمبر 1949 مسيحي، فأُحيل على الجمعية العامة التي تبنّته بأغلبية 48 صوتاً مقابل اعتراض صوت واحد وغياب تسعة مندوبين من بينهم المندوب الفرنسي في جلستها المنعقدة في 21 نوفمبر 1949 ليصبح قراراً دولياً تحت رقم " 289 " متضمناً في نصوصه على : -
أنْ تصبح ليبيا بمناطقها الثلاث دولة مستقلة في مدة زمنية أقصاها أول يناير 1952 ولها أنْ تنضم إلى المنظمة وفقاً لما يمليه ميثاقها .
- أنْ يتقرّر دستور البلاد ونظام الحكم السياسي فيها من خلال جمعية وطنية تمثّل سكانها بالمناطق الثلاث .
- أنْ يعيّن مندوب عن الأمم المتحدة لمساعدة الشعب الليبي على إقامة دولته، يساعده مجلس استشاري يتكون من مندوبي أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، ومصر، والباكستان، وممثل عن الجالية الإيطالية بليبيا ! ، وثلاثة ممثلين عن المناطق الليبية الثلاث ! .
فإلى أيّ مدى كان لليبيين تأثيرهم على مجريات الأحداث فيما بعد ليقبلوا بأنْ يتزامن عيد استقلالهم مع عيد ( الكرسمس المسيحي ) في 24 ديسمبر من كل عام ؟! .
سؤال يطرح نفسه على كل من يمت للإسلام بصلة، ويأبى أن يُختزل ثمن أرواح الشهداء ودمائهم في استقلال كهذا ! ويؤكّد في ذات الوقت، وبما لا يدع مجالاً للشك بأنَّ ولادة ليبيا المعاصرة كانت قيصرية ترتّب عليها تشوّه المولود فكان لابد له من علاج، وكان الأمر كذلك فور أنَّ اتخذ الطبيب قراره .
بقلم: حسين العيساوي